رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عبدالرحيم كمال يكتب: سعادة الباشا

عبدالرحيم كمال
عبدالرحيم كمال

قال الباشا ساخرًا: وأنت ضليع فى قواعد اللغة العربية؟ أصول اللغة العربية؟.. ورد الأستاذ حمام بسخرية أشد: لا أنت اسم الله عليك اللى باين عليك سبايط موز وعناقيد عنب.
هكذا كان حال نجيب الريحانى المدرس الفقير فى صالون قصر الباشا فى فيلمه الشهير «غزل البنات»، فهو لم ير باشا من قبل وكلما دخل عليه خادم أو مُروض للكلاب ظن أنه الباشا وحينما دخل عليه الباشا فى زى الجناينى، لحظه العاثر، تعامل معه على أنه جناينى، فجاء الضحك وحدثت الكوميديا ودار بينهما ذلك الحوار الساخر.
هذا هو حال الإعلام أو بعض الإعلاميين وحال النقد أو بعض النقاد مع الأعمال الفنية تلك الأيام، أما الجمهور فلا حال له فقد خرج من اللعبة تمامًا.
فربما ترى، تلك الأيام، إعلاميًا يهلل لعمل ردىء وفقير فنيًا، وناقدًا يصف عملًا مهلهلًا بالتماسك أو عملًا مكتوبًا بشكل حقير فيصفه بالكتابة العظيمة.. لا تغضب يا عزيزى ولا يرتفع ضغط دمك، فهو لا يعرف الفن الحقيقى.. لا يعرف الباشا من مُروض الكلاب فكلما مر به أحدهم وقف وانحنى لربما يكون هو الفن الباشا.
هذا الناقد وهذا الإعلامى لا يعرف الفن الحقيقى لم يمر أمامه لم يقرأه من قبل لم يشاهده على شاشة أو مسرح.. هو شخص مسكين يعتقد أن صراخ الممثلة الفلانية ربما يكون فنًا فلا بد أن يشيد بها وربما تتفرغ القنوات ليالى لتسألها كيف صرخت هذه الصرخة المدوية؟ وكيف لطمت الخدود بتلك العبقرية وتنهال الصفات الرهيبة؟ صفات تشبه تلك التى كانت تكتب تحت الكوبرى عن «وحش» الكيمياء و«أسطورة» الفيزياء صار هناك «غول» و«غولة» التمثيل و«تمساح» الأداء و«ديناصور» الإحساس و«أسطوات» الكت و«عباقرة» السرد و«ملوك» التويست و«أمراء» البلوف و«حراقى» القفلات و«عفريت» المونتاج و«وحش» التصوير و«حرامى» الكاميرا.
منح الناقد الجاهل والإعلامى الأجهل لممارس تلك المهنة الفنية بتواضع ألقابًا سيقف عاجزًا عن فهمها عند ترجمتها لهم تمامًا، ولسنوات طويلة كل من آل باتشينو ودى نيرو وسبيلبيرج وميريل ستريب وجوليا روبرتس وترانتينو وكارلوس سورا وكيرساوا وربما أخذهم الفضول ليحظوا برؤية سريعة لوحش أو غول أو عفريت التمثيل ليعلموا أن عمرهم فى الفن قد ذهب هباء.
صارت كل مخالفة صريحة للفن والقانون والإنسانية تحظى يوميًا بتشجيع نادر ومنقطع النظير من هذا الإعلامى أو ذاك الناقد وليس ذلك عن سوء نية- لا سمح الله- أو فساد فى الذمم عن طريق قبول رشوة مادية- حاشا لله- ولكن يحدث ذلك بناءً على جهل فنى صريح، جهل أصيل متأصل، ومن نتائج هذا الجهل الخوف الشديد والرعب من أن يكون هذا هو الفن الحقيقى «ليه لأ.. إيش عرفنا؟» ولحظتها سيكون عيبًا عليه ألا يمدحه، وفِى اليوم التالى يزداد صراخ الممثلة وعويل الممثل ويزداد المدح، وهكذا، حتى يتحول الأداء إلى صرخات والكتابة إلى مفاجآت مجانية والمواضيع إلى تسابق غير مبرر فى الشر أو بحث حميم عن النقود، ضاقت الموضوعات على أصحابها وتفتقت وتقطعت للترهل الشديد فى المحتوى وصار المحتوى «باظظظظظ.. باظظظظظ.. خالص» كما يقول الإعلان، وانقسم الفنانون إلى نوعين، نوع يهمس كلامه همسًا بشكل متعال مدعيًا الواقعية والبساطة فى الأداء والتعبير، ويا سلام لو اشتمل الهمس على حشرجة أو بلغم، لبلغت الواقعية منتهاها، وقسم آخر قديم يصرخ وتنتفخ عروقه ويلطم ويصدر كل الأصوات وردود الأفعال الممكنة بالأيدى والحواجب والأقدام ولكل قسم نقاده وإعلاميوه، فيدافع الأول عن الحداثة ويدافع الثانى عن عظمة المبالغة الكلاسيكية وصار غالب الموضوعات، سواء كوميديًا أو تراجيديًا يتلخص فى البحث عن النقود، وأى شىء بعد النقود والبحث عنها، فرعيات تندمج فيها قصص الحب الفاشل ومعارك وجرائم قتل صغيرة تغذى رحلة البحث الدامية عن النقود، كل ذلك يدار عبر عين بلا رؤية ومخرج يصنع كل شىء عدا الدراما، ليظهر بعد ذلك مع الإعلاميين على الشاشات يتحدث بلا حياء عن عظمته وتميزه أو عظمتها وتميزها، وتكتب المقالات وتعرض المقابلات، ويتم إكمال النصب التذكارى للتفاهة فى وسط ميدان الجهل، بينما يجلس الناقد والإعلامى فى الصالون ينتظران دخول الباشا الفن ويقفون عند دخول أى جربوع ظنًا منهم أنه الباشا.