رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمود خليل يكتب: الجالس على جثة أخيه

محمود خليل
محمود خليل

فى رمضان عام ١٢٧٤ هجرية «مايو ١٨٥٨م» وقعت حادثة مدوية رجت بر مصر من شماله إلى جنوبه، وكانت مثار الأحاديث العامة بين أهل مصر لفترة من الزمن.
والى البلاد فى ذلك الوقت هو سعيد بن محمد على «خديو فيما بعد»، أما ولى عهده فهو الأمير أحمد رفعت «أو أحمد رأفت كما سماه إلياس الأيوبى فى كتابه عن عهد الخديو إسماعيل» نجل إبراهيم باشا بن محمد على.
وقد ورث «سعيد» الحكم بعد اغتيال الوالى عباس حلمى الأول «ابن طوسون بن محمد على» على يد اثنين من مماليكه، ولم توضح كتب التاريخ الأسباب التى دفعت المملوكين إلى الإقدام على ذلك، لكنها تتحدث عن الخصومة البينة التى كانت بين عباس وولى عهده سعيد باشا، وأن الأول كان يخطط لنقل العرش من بعده إلى ولده إلهامى باشا، لكنه لم ينجح فى ذلك. فهل كان سعيد وراء اغتيال عباس؟. سؤال لا يستطيع أحد أن يحسم الإجابة عنه، لكن الثابت فى كتب التاريخ أن سعيد كان واحدًا من كبار المتآمرين داخل الأسرة العلوية.
اشتهر «سعيد» بإقامة الحفلات الكبرى والولائم العامرة فى شهر رمضان، وقد جرت عادته على دعوة أمراء الأسرة العلوية لحضور هذه الاحتفاليات التى يقيمها بمناسبة الشهر الكريم. وفى رمضان ١٢٧٤هـ نظم «سعيد» حفلًا كبيرًا فى الإسكندرية دعا الأمراء إليه، وعلى رأسهم ولى عهده الأمير أحمد رفعت والأمير إسماعيل «أصغر أبناء إبراهيم باشا بن محمد على»، وكذلك حليم باشا أصغر أبناء محمد على.
ولبى «رفعت» و«حليم» الدعوة، أما «إسماعيل» فقد اعتذر عنها بسبب توعك مزاجه! صدّق الأميران كلام «إسماعيل» وامتطيا القطار الخاص إلى الإسكندرية لمشاركة الخديو الاحتفال بليلة من ليالى الشهر المعظم. وصل الأميران سالمين وعاشا لحظات سعيدة، ثم قررا الرحيل، فركبا القطار ليتخذ وجهته إلى القاهرة، ولكن وقعت واقعة عجيبة عند منطقة كفرالزيات، حيث فوجئ سائق القطار بأن الكوبرى مفتوح للسماح بعبور السفن، وكان القطار يسير على سرعته المعتادة فلم يتمكن السائق من إيقافه ليسقط بالأميرين وحاشيتهما فى النيل!، نجا الأمير حليم من الحادث، وكان معروفًا عنه إجادة السباحة، فى حين أفضى الأمير أحمد رفعت ولى عهد مصر إلى ربه غرقًا، بسبب عدم إجادته العوم. وآلت ولاية العهد من بعده إلى أخيه الأصغر الأمير إسماعيل.
الحادثة كانت مثار أحاديث الناس فقد وقعت فى كفرالزيات وفوق صفحة النيل ووصل صداها إلى الأهالى، وكان لسان حالهم يقول إن موتة الأمير «أحمد رفعت» لم تكن قدرية بل مخططة، وإن التخطيط تم بمعرفة الخديو سعيد، وربما أيضًا بعلم «إسماعيل» الذى كان لديه معلومة عن التدبير الذى يتم ضد أخيه الأكبر بدليل اعتذاره عن حضور حفل الإسكندرية. يتحدث ميخائيل شاروبيم فى كتابه «الكافى فى تاريخ مصر» عن مصرع الأمير أحمد رفعت ويشير إلى أن الناس تحدثوا عن أنه أغرق بأمر من «سعيد» حتى لا يتولى الحكم من بعده لأمر نقمه عليه، وأن «سعيد» أرسل إلى الأميرين إسماعيل ومصطفى فاضل «شقيقى أحمد رفعت»، يطلب منهما عدم ركوب القطار الذى غرق فيه الأمير أحمد فى النيل. ويعنى ذلك أن سعيد تمكن من إقناع «إسماعيل» بالمشاركة فى مؤامرة قتل أخيه، وأن الأخير وافق على ذلك طمعًا فى العرش. ولعلك تعلم أنه بعد وصول إسماعيل إلى سدة الولاية تآمر على كل نسل محمد على، واستصدر فرمانًا عثمانيًا بجعل ولاية العرش من بعده فى نسله. انشغل المصريون بالحادثة المثيرة وقتًا، لكن سرعان ما انشغلوا عنها بليالى رمضان، وبالتسليم بأن خناقات الكبار يجب ألا يحشر الصغار أنوفهم فيها، فيكفى جدًا أن يلوكوها بألسنتهم.