رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمود خليل يكتب: الوالي الكبير يقابل ربه فى رمضان

محمود خليل
محمود خليل


احتضن يوم ١٣ رمضان من عام ١٢٦٥ هجرية، الذى وافق ٢ أغسطس من عام ١٨٤٩ ميلادية، حدثًا مهمًا فى تاريخ مصر المحروسة؛ فى ذلك اليوم مات واليها المتقاعد مؤسس نهضتها الحديثة محمد على باشا.. أواخر أيامه انطفأ عقله المتوقد.. كان للتقدم فى العمر وتمكن المرض منه أثر بالغ على قدرته العقلية، فأصبح حديثه فى أحيان أقرب إلى الهذيان.. أواخر عمره ترك الحكم لولده المقاتل الكبير إبراهيم باشا، لكن إرادة الله شاءت أن يتوفى الوالى الجديد بعد أشهر وعلى حياة عين أبيه الوالى الكبير، بعد وفاة إبراهيم تولى عباس حلمى بن طوسون أمر مصر وذلك عام ١٨٤٨.
فى تلك الأثناء كان الوالى الوالد الكبير- الذى أنجب واليًا مات وحفيدًا يحكم- يرقد فى قصر رأس التين بالإسكندرية مشوش العقل زائغ الإحساس، يعتصره الحزن بسبب ضياع الأراضى والبلاد التى امتد نفوذه إليها جراء تكالب الدولة العثمانية والدول الأوروبية عليه واتفاقها على تقليم أظافره وسجن حلمه فى تكوين إمبراطورية كبرى داخل مصر والسودان، وزاد من حزنه الألم الممض الذى اجتاحه بعد وفاة ولده الأثير وصانع أمجاده العسكرية إبراهيم باشا.. لم يكن الوالى الكبير أيضًا بريئًا من اليأس، وما أضيع النفس التى يعشش فيها الحزن إلى جوار اليأس، كان مؤسس مصر الحديثة يائسًا كل اليأس من قدرة أبنائه وأحفاده على استكمال مشروعه أو الحفاظ على ما تبقى منه، وهكذا مكث الوالى الكبير داخل إحدى الغرف بالقلعة يجتر أحزانه ويأسه حتى كان يوم ٢ أغسطس عام ١٨٤٩.
فترة طويلة كانت قد مرت على اعتزال الوالى الكبير، نسى الأهالى خلالها محمد على، فى ذلك التوقيت كان الأهالى غارقين فى طقوسهم الرمضانية المعتادة، والنفر منهم لا يظهر فى الشوارع ولا يفتح الحوانيت إلا قرب العصر- كما يصف ويليام لين فى كتابه «المصريون المحدثون»- ومن لا تسوقه الحاجة إلى الأسواق يتمدد أمام منزله منتظرًا أذان المغرب.. بطبيعته لا يطيق المصرى الاستماع أو الحديث إلى الآخرين طيلة نهار رمضان، لكنه يتحوّل بعد المغرب إلى شخص آخر يشبه فى رقته الريح المرسلة، كل ما كان يشغل الأهالى حينذاك كيف يستهلكون ساعات النهار وكيف يأنسون ويسعدون ويبتهجون وينطلقون فى ساعات الليل الرمضانى الأثير حتى يدهمهم صوت «المسحراتى» لينبههم للاستعداد لصيام يوم جديد، يأكلون ما شاء لهم الهوى حتى أذان الفجر ثم يخلدون إلى النوم، حتى إذا استيقظوا انخرطوا من جديد فى حالة الضجر والفلتان العصبى الناتجة عن الصوم، فيعزفون عن العمل أو التفاعل مع الآخرين، ويستغرقون فى حساب الساعات المتبقية على المغرب.
فى هذه الأجواء نادى المنادى فى شوارع المحروسة وأزقتها وأسواقها أن «الدوام لله.. مات الوالى الكبير محمد على باشا.. وسوف يُدفن جثمانه بعد الصلاة عليه بمسجده الذى بناه بالقلعة».. كتب التاريخ لا تصف كيف كانت جنازة محمد على، والسكوت عن الذكر يعنى أن الحدث مرّ مرور الكرام.. ربما يكون بعض المصريين الصائمين قد تساءلوا: وهل كان على قيد الحياة حتى لحظة الإعلان؟، وكأن ترك الحكم معناه الموت فى نظر الأهالى، ربما ذكر آخرون فترة حكمه التى امتدت لما يزيد على ٤ عقود كاملة فاستطالوا عمره، وربما سخر بعض الأهالى من آخرين أمثالهم حزنوا على وفاة الوالى الكبير عن عمر يناهز ٨٣ عامًا بالمثل المصرى الشهير: «من مات صغير مات نبى كل الناس تبكى عليه.. ومن مات كبير مات هابيل كل الناس تضحك عليه».