رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نبيل عبدالفتاح: عرفت الله من جدى.. والدين أطلق طاقتى الروحية

نبيل عبدالفتاح
نبيل عبدالفتاح

قال الباحث نبيل عبدالفتاح، خبير شئون الجماعات الإسلامية بمركز الأهرام الاستراتيجى، إن الدين شكّل فى حياته قوة دفع وحركة وأطلق طاقته الروحية نحو البناء والتطور والعمل من أجل الحرية والمساواة، خاصة أنه نشأ فى زمن التحرر الوطنى، وعرف الله لأول مرة فى طفولته عن طريق الأسرة، التى رأته باعتباره مطلق الخير والعدل والإخاء الإنسانى.
وأضاف، فى حواره مع «الدستور»، أن بعض المغالين استغلوا، خلال العقود الماضية، متون الفقه واللاهوت وشروح الكتب وفرضوا تسلطهم على المجتمع عبر إضفاء القداسة على تلك النصوص التى هى نتاج وضعى وتاريخى، معربًا عن أمله فى استئناف الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، حواره مع المثقفين، وتفعيله وثائق العيش المشترك، من أجل تكوين جيل إصلاحى قادر على تجديد الفكر الإسلامى.

■ بداية.. ماذا يعنى الله فى حياتك؟
- الحضور الإلهى فى الحياة هو مطلق المطلقات كلها، هو حالة عقلية وروحية معًا، فمن خلال البراهين العقلية يتم الوصول إلى معنى الخلق والوجود الإنسانى والطبيعة ودلالة عبادة الواحد العادل، الذى يتمثل فى مطلق قيم ومبادئ الخير والعدالة والمساواة ونفى الظلم والاستعباد والتحرر من الأوثان الوضعية، وكهنتها وطقوسها وأنبيائها.
والله- جل وعلا تعالت قدرته وشأنه- يمثل وجوده لى الحرية العقلية والفكرية، ونقد أى أفكار وضعية فلسفية أو سياسية أو اجتماعية أو أيديولوجية، لأنها أفكار نسبية متغيرة، ولا قداسة لها.
ووجوده الإلهى، الذى يعجز نظام اللغة، أو بالأحرى أنظمة اللغة أيًا كانت، على وصف جلاله، يعنى لى أنه السند الذى ألجأ إليه وقت الشدة والأزمات طالبًا عونه ودعمه وإرشاده إلى الخيار الأنسب وتحمل تبعاته.
وحضوره، تعالى، يعنى لى دائمًا الحث على دعم قيم الحرية والمسئولية والعدالة والمساواة والإخاء وعدم التمييز وعمل الخير والإنصاف بين الناس، أو ما نطلق عليه نحن بلغة عصرنا «الصالح العام للإنسانية»، وللأمة التى أنتمى إليها، وهى الأمة المصرية وعالمنا العربى.
واللجوء والتضرع إلى الله فى الحياة الفردية يشكل الدافع للعمل المنتج الخلاق، والنافع والمفيد للإنسان والمجتمع، من ناحية، كما يتم اللجوء إليه سبحانه وتعالى للمغفرة، حال وقع المرء فى إحدى الخطايا، لأنه الملاذ الأول والأخير.
كما أن الوجود الكلى والمطلق لله فى الحياة وما بعدها يعنى التحرر من أى ضغوط وسلطات وضعية تقهر الإنسان وتستبد بحياته وتقيد حريته فى التفكير والتعبير وحرية الضمير الحر، بما لا يؤذى الآخرين وإنما يسعى إلى خيرهم، وتصويب الخطأ فى مساراتهم، وحضوره يعنى رفض الاستغلال الفردى أو الطبقى أو الدولى تحت أى مسميات، قوى عظمى أو إمبراطورية أو نظم سياسية توتاليتارية أو دينية مستبدة.
كما يعنى، أيضًا، رفض اختلالات المسارات والقيم السياسية، ووضع جميع الأفكار الإنسانية فى كل فروع العلوم الإنسانية أو الأيديولوجيات السياسية، بما فيها أفكارى الذاتية، تحت مجهر العقل النقدى التحليلى، لأنها نسبية تدور فى مدارات النسبيات، بما فيها بعض الفكر الدينى الوضعى، لأنه يقبل الدحض والأخذ ببعضه، لأنه لا قداسة له.
وإجمالًا أقول: الله هو نور السموات والأرض والكون والحياة، هو من ينير الروح والعقل والبصيرة، سبحانه وتعالى، وهو من يجعلنى أدافع عن الحرية والإنسانية لجميع الناس، أيًا كانت انتماءاتهم الثقافية والعرقية والقومية والمذهبية والدينية واللغوية، لأن المساواة بين الناس، والتسامح فيما يختلفون فيه، هو ما يفرز قيم المساواة والعدل والإنصاف، والله تعالى هو من سيحاسب الإنسان يوم لا ظل إلا ظله، وهو يمثل مطلق الخير والعدل والمساواة والمحبة والإخاء الإنسانى، وهو كل شىء ووراء وفوق كل شىء فى هذه الحياة.
■ هل شكّل الدين قوة دفع فى حياتك الخاصة؟
- كان قوة دفع وحركة ناتجة عن إطلاق الطاقة الروحية الخلاقة داخلى، فقد دفعنى للسعى نحو العمل والبناء والتطور، خاصة أننى نشأت فى زمن التحرر الوطنى والدفاع عن قيم الاستقلال والحرية والتقدم، ومفاهيم العدالة الاجتماعية والعلم والمساواة بين المواطنين، وفائض القومية المصرية فى بُعدها الإنسانى.
ومن هنا كانت النظرة إلى الدين عامة تعنى القيم التحررية والعدالة، فى مواجهة أى نمط من التسلطية الدينية الداعمة للتسلط السياسى فى أى بقعة فى العالم، ومن هنا كان اطلاعى العلمى والتاريخى، منذ دراستى القانون ثم عملى كباحث، منصبًا على الكتابات الإصلاحية فى الفكر الدينى الإسلامى، وأعمال كبار الفقهاء منذ منتصف القرن الثامن العشر، حتى الآن.
والحديث عن الدين كمحفز أو عائق يعتمد على نمط التكوين والمعرفة بالعلوم الإسلامية ونمط التأويلات والتفسيرات السائدة فى مرحلة تاريخية، والتى يأخذ بها المؤمن بهذا الدين أو ذاك.
■ هل تقصد بذلك أن الدين قد يشكّل عائقًا فى حياة البعض؟
- ثمة بعض الغلاة ممن يحاولون إضفاء القداسة على الفكر الدينى الوضعى أو بعضه واجتزائه من سياقاته وتوظيفه لأهداف ومصالح سياسية أو دينية، ليسيطروا على أرواح الناس، والعياذ بالله.
والفقه واللاهوت، فى سياقاتهما التاريخية، هما نتاج وضعى، ويؤحذ منهما ما يدفع لتكريس قيم التقدم والعدالة والحرية والمساواة ورفض الظلم والإخاء الإنسانى والتعايش المشترك، وهى قيم لها سند دينى يحرك طاقات التقدم والبناء وإلانجاز والمسئولية.
لكن هناك من يوظف بعض الفقه وشروح المتون والحواشى دون النظر إلى الأسباب والسياقات والظروف والضوابط، كى يمارس سلطته ووصايته على الضمائر وإيمان الناس، فى شعب متدين أساسًا، وهو ما أدى لانتشار العنف، ضمن أسباب أخرى متعددة ومركبة.
كما أن ذلك أدى لبروز نمط من التدين الشكلى، الذى يهتم بالمظاهر كأداة لبناء مكانة فى بعض الأوساط الاجتماعية والمهنية، دون علم وتكوين ومعرفة، كما نرى منذ أكثر من ٥ عقود، وذلك دون تركيز على جوهر التدين والإيمان الفردى والجماعى، من تأصيل المسئولية الفردية والإخلاص فى العمل، والأمانة، وعدم الكذب أو المراوغة وضرورة الاستقامة والصراحة، وعمل الخير، إلى آخر القيم الجميلة والإيجابية التى يحض عليها الدين والإيمان الحق.
■ مَنْ أول شخص رأيت الله من خلاله؟
- جدى محمد حسن سعد، رحمه الله، وهو من جيل المرحلة شبه الليبرالية، وثقافة الوحدة الوطنية ومعاداة الاستعمار البريطانى، وكنت لصيقًا به وبجدتى، رحمهما الله، فى طفولتى وتلقيت تعاليمهما البسيطة فى الأحاديث اليومية، وعرفت أن الله- سبحانه وتعالى- هو خالق الكون والسموات والأرض والبشر جميعًا، وأنه واحد أحد، وعرفت فى رواية القصص الدينى الإسلام وقواعده، وعرفت الرسول محمد، صلى الله عليه وسلم، فى بساطة، خاصة قبل ذهابى إلى كتّاب الشيخ حسن ونس، فى شبرا.
■ هل تتذكر أول تصوراتك عن الله؟
- التصور الأول الذى تلقيته عن جدى وجدتى وأبى وأمى يتمثل فى أن السماء والأرض والبشر والحياة والموت وراءها الله، خالق كل شىء، وذلك من خلال سرديات بسيطة واضحة وسلسة، أقرب إلى ذهنية طفل ولد عام ١٩٥٢، وقبل ٢٣ يوليو وسياقاتها وتطوراتها.
ودار التصور الأول حول الروحانية والله الذى يحرك كل شىء فى الحياة، وأننا لسنا سوى عباده، وذلك من منظور العقيدة الإسلامية وعلى نحو بالغ التبسيط بما يتلاءم مع ذهنية طفل.
■ متى بدأت فى تلقى معارفك الدينية من خارج الأسرة؟
- عند ذهابى إلى كتّاب الشيخ حسن ونس فى شبرا، قبل دخولى التعليم الابتدائى، وذلك لحفظ القرآن الكريم ومبادئ القراءة والكتابة والحساب.
وكانت هذه المعرفة تتأسس على حفظ جزء «عم» وجزء «تبارك» أولًا، ومن خلال التسميع للشيخ والاستماع لشروحه النقلية، مع العقاب الشديد بالضرب بالعصا الخيزران أو الفلكة، التى تحدث عنها أستاذنا العميد طه حسين، وذلك حين الخطأ أو عدم الحفظ، وكان ذلك مستمرًا فى مصر إلى أوائل ستينيات القرن الماضى، ويتواجد فى قلب القاهرة وأحيائها الكوزموبوليتانية، مثل حى شبرا، التى شهدت التنوع والتعدد والحياة المشتركة بين المصريين، والمتمصرين، من أتباع الديانات السماوية الثلاث.
■ مَنْ هم مشايخك المفضلون؟
- إذا كان السؤال عن دولة التلاوة المصرية وأصوات السماء بتعبير محمود السعدنى، فهناك الشيخان العظيمان محمد رفعت ومصطفى إسماعيل فى فتوته وفى تسجيلات نهاية الأربعينيات.
وهناك أيضًا الشعشاشى وأبوالعينين شعيشع وصديق المنشاوى، والصوت العلم عبدالباسط عبدالصمد، الذى كتب عنه صديقى الشاعر اللبنانى والكاتب عيسى مخلوف بعد سماعنا له فى مسرح «الأماندييه» فى باريس، «الصوت ما وراء الصوت»، وذلك فى مقالة له بمجلة «اليوم السابع» الباريسية، كما أن هناك الشيخ طه الفشنى، وعبدالعظيم زاهر ونصر الدين طوبار وسيد النقشبندى.
أما إذا كان المقصود شيوخ الأزهر، فهناك كل من الشيخ حسن العطار ورفاعة رافع الطهطاوى والإمام محمد عبده والكواكبى ومصطفى وعلى عبدالرازق والإمام مصطفى المراغى، الإصلاحى الكبير، والإمام محمود شلتوت والشيخ عبدالمتعال الصعيدى، أكبر عقل فقهى أزهرى فى القرن العشرين كله بلا منازع.
وكذلك هناك محمود بخيت ومحمد عبدالله دراز والدكتور محمد البهى، صاحب الفقه الاجتماعى، الذى درسه فى جامعة «ماكجيل» بكندا، وأثر فى المفكر الإندونيسى ووزير الشئون الدينية معطى أحمد، كما قال لى فى منزله فى جاكرتا فى نهاية تسعينيات القرن الماضى، بعدما درس على يديه.
كما أن هناك الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، وأتمنى عليه تفعيل وثائق الأزهر عن العيش المشترك والأخوة الإنسانية، التى أصدرها مع بابا الفاتيكان الحالى، لتكون مرشدًا فى عمليات إصلاح التعليم فى الأزهر الشريف، من أجل تكوين جيل جديد إصلاحى النزعة والتوجه، يجدد فى الفكر الدينى الإسلامى.
كما أتمنى عليه العودة إلى الحوار مع بعض المثقفين الكبار فى مصر، بمن فيهم الصديقان الدكتور جابر عصفور والدكتور صلاح فضل وآخرون، وغالبهم راغب فى الحوار معه، وأعتقد أن لديهم ما يمكن أن يفيد ويساعد فى تجديد التعليم والفكر الدينى، خاصة أن ببلادنا تواجه مشكلات كبرى وتحتاج إلى هذا الحوار الجاد والتعاون الخلاق.
■ كيف تنظر لانتشار التصوف فى العالم وما مساحته فى حياتك؟
- التصوف فى جوهره هو سعى إلى تطهير النفس من الخطايا والآثام، والإخلاص لله، عز وجل، من خلال الإيمان الفردى، بعيدًا عن الاستعراض الشكلى، الذى يحاول بعض الغلاة استغلاله لبناء مكانة اجتماعية وسياسية وفرض سلطة رمزية وتفسيرات متشددة أو مغلوطة على روح الناس، مستغلين فى ذلك الأمية الدينية أو أمية القراءة والكتابة.
ومن ناحيتى اطلعت على أغلب متون التصوف وأبحرت فى عوالمهما، لكن مع إعمال العقل، لأن بعض الشطحات أقرب إلى سرديات أدبية تخيلية، وثمة روح تصوف تجتاحنى فى العديد من الأحيان إزاء مصاعب الحياة، وأيضًا كآلية للارتقاء الروحى والسعى للصفاء والتوازن النفسى.