رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمود خليل يكتب: اضرب المربوط يخاف السايب

محمود خليل
محمود خليل

دخل رمضان عام ١٢٣٢ هجرية «١٨١٧م»، والأسواق فى مصر خارج السيطرة، فقد ضاق الأهالى ذرعًا بعدم وجود أى انضباط فى تحديد الأسعار، حيث كان كل تاجر يسعّر سلعته كما يشاء وكيفما شاء، وزاد الطين بلة لجوء بعض التجار إلى حبس وإخفاء بعض السلع التى يحتاج إليها الأهالى فى رمضان «مثل السمن» حتى تشح فى السوق وتغلو أسعارها.
صرخات الناس من الأسعار وصلت إلى الوالى محمد على، فاحتار فى أمره وتعجب كيف تمكن من السيطرة على البلاد بكل أقاليمها وخافه الجميع بمن فى ذلك العربان وقطّاع الطرق، إلا «سوقة مصر وما هم فيه من انحراف وقلة طاعة ولا مبالاة بالإهانة والإيذاء».
وفى مواجهة المشكلة، قرر الوالى تنحية المحتسب القائم وتولية مصطفى كاشف مكانه، كان «كاشف» شخصًا حازمًا حاسمًا أراد أن يحل المشكلة من جذورها، ويؤدب كل التجار والبائعين داخل الأسواق المختلفة.
بدأ رحلة التأديب بمجموعة من الإجراءات السريعة، فكان يحاسب على أقل هفوة بقطع شحمة الأذن، ويهشم عظام من يغالون فى الأسعار بـ«الدبوس»، وفرض أسعارًا محددة لكل السلع، وأخذ يفتش عن البضائع المخزنة والمحبوسة ويستخرجها ويوزعها على التجار ويفرض بيعها للزبائن بأسعار محددة ليس فيها مغالاة.
وأمام هذه الإجراءات قرر التجار وأصحاب الحوانيت التحدى، فأغلقوا الدكاكين ومنعوا البيع والشراء، وحدثت أزمة بين الأهالى فى الحصول على الدقيق لعمل كعك العيد والرقاق اللازم لرمضان، لكن مصطفى كاشف لم يأبه بكل ذلك، وأمام هذا الإصرار اضطر التجار إلى فتح الدكاكين وفرش البضاعة بالأكوام أمامها وبيعها للأهالى بالسعر المحدد.
لم يتوقف المحتسب الجديد عند هذا الحد، فأراد أن يحل المشكلة من جذورها، بدأ يبحث عن «مربوط» ينكل به حتى يخاف «السايب» إعمالًا للمثل الذى يردده الأهالى: «اضرب المربوط يخاف السايب».. فتش فى الدفاتر القديمة فقفز على سطورها اسم «حجاج الخضرى»، وهو اسم كبير فى عالم التجارة والبيع والشراء، وكان كبير بائعى «الخضروات»، وتمتع بشهرة كبيرة بسبب ما امتاز به من قوة وشجاعة دفعته فى بعض المواقف إلى مواجهة الوالى محمد على نفسه فى وقت كان يرتعد الكبار منه.
كان حجاج الخضرى أحد الزعماء الكبار الذين حركوا الشارع المصرى المطالب بتولية محمد على الحكم عام ١٨٠٥، وخلافًًا للدور الذى لعبه عمر مكرم كان «الخضرى» زعيمًا عضويًا يشكل جزءًا من النسيج الشعبى، لا يكتفى بإلهابه بالخطب أو الحديث باسمه داخل قصور أولى الأمر، كما كان المشايخ يفعلون، بل يعرف كيف يحشد الجموع ويقودهم لتغيير الأوضاع على الأرض.. وبدأ الشقاق بين الخضرى والوالى عندما اتخذ الأخير قرارًا بتجريد الأهالى من السلاح، وهو ما لم يرض به الخضرى، لأنه كان مستهدفًا من العساكر الذين واجههم لصالح محمد على.
أراد «الخضرى» أن يحتفظ بسلاحه وبالفرقة التى كان يقودها فى الرميلة فى وقت كان الوالى يبحث فيه عن تهدئة الأوضاع وتنظيم حق استخدام القوة وحصره فى كنف الدولة، وهو ما لم يرض «الخضرى»، ففر إلى محمد بك الألفى «غريم الوالى»، ثم عاد إلى القاهرة بعد أن حصل له عمر مكرم على «كتاب أمان» من الوالى، لكن لم يطل به المقام فى العاصمة، فأخذ يتنقل من مكان إلى مكان واختفت سيرته من الأحداث التى عاشتها مصر خلال النصف الأول من فترة حكم محمد على، لكنه قفز فجأة على سطح الأحداث مع تولى مصطفى كاشف مهمة المحتسب.
وجد المحتسب الجديد، حين فكر فى تطبيق مثل «اضرب المربوط يخاف السايب»، ضالته فى المسكين «حجاج الخضرى»، قبض «كاشف» على فريسته فى يوم ١٧ رمضان من هذا العام بنواحى الرميلة، فساقه العساكر إلى الجمالية حيث نفذ فيه حكم الإعدام شنقًا على السبيل المجاور لحارة «المبيضة» وقت السحور، واستيقظ أهالى المنطقة على المشهد المروع، وردد بعضهم أن «الخضرى» أخذ دون جريرة واضحة، ولكن كان من الواضح أن المحتسب الجديد كان يحاسبه على مجمل أعماله.. ومن يومها نظفت الأسواق من الغش والغلاء