رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

راجح داود: تردى التعليم والجماعات الدينية وراء سؤال «أنت مسلم ولّا مسيحى؟»

راجح داود
راجح داود

الطريق إلى عقل الموسيقار راجح داود يستلزم أولًا المرور إلى قلبه النابض بحب الحياة، ومحاولة إقناعه بإجراء حوار صحفى هى رحلة تشبه السير فى طريق غير مفروش بالورود، بل محاط بأشواك تطرح من ثمر الرفض.
فهذا الفنان الكبير دائمًا ما يعتذر بلباقة وينسلخ بمهارة من فكرة القبول أو الاستسلام لموضوع الحديث الصحفى، والسبب فى هذا قناعته العائدة إلى موسيقاه، التى يراها أعظم حوار ممكن أن يقدمه، باعتبارها لحنه الدائم الذى يتلذذ بسماعه وقراءته فى آن واحد.
لذا حين عرضت عليه إجراء الحوار، كنت أتوقع منه أن يبادر بالاعتذار أو المراوغة التى يكون ظاهرها القبول لكن باطنها يفضى إلى الرفض، لكننى فى هذه المرة وجدت أمامى رجلًا سهلًا كالماء، بسيطًا كالزهور، لم يعلن خلال كلامنا سويًا قبوله أو اعتذاره عن طرحى، إلا بعد معرفة الفكرة التى يدور حولها الحديث الذى أسعى إليه.
«الله فى حياة راجح داود»... كانت الفكرة التى ترتكز عليها أعمدة الحوار، وحين سمعها وجدته مرحبًا بشدة بالكلام عن رحلته فى دنيا الله، معتبرًا هذا الموضوع دائمًا وأبدًا هو سؤال كل جيل وقضية كل عصر.. فماذا قال وحكى عن ذلك؟

جميع الرسالات تسعى لهدف واحد مع اختلاف الطقوس

اللقطة الأصعب فى الحديث مع الموسيقار راجح داود كانت مدخل الحوار نفسه، لأنه بعد بحث شديد وتقصى أشد من جانبى، كانت هناك نقطة فاصلة لم أصل لإجابة عنها، ألا وهى اسمه، فـ«راجح داود» من الأسماء التى تقع فى منطقة المنتصف، فلا يمكن الحسم بكونه إنسانًا يعتنق الدين الإسلامى مثل حال غالبية الشعب المصرى، أو الجزم بأنه مسيحى الديانة، لذا بادرته بالسؤال الصعب والمحرج: إلى أى الأديان ينتمى الموسيقار الكبير؟ فأجابنى باستفاضة قائلًا ما يلى:
أنا منتمٍ ومعتنق لكل الأديان، لأن كل الأديان والرسالات التى هبطت من السماء أهدافها واحدة وإن اختلفت الطقوس، على رأسها البحث عن الأخلاق وتثبيت أركانها داخل الأمم لأجل تربية النفس الإنسانية تربية سوية، وما عدا ذلك يبقى مجرد اختلافات شكلية بحتة، وكل الأديان رغم اختلاف زمانها جاءت لتكمل بعضها البعض.
وطيلة عمرى لم أشغل بالى بالفكرة السابقة، ولست أنا وحدى، بل كانت تلك طبيعة تميز ثقافة الشعب المصرى على مدار تاريخه باستثناء بعض الفترات الماضية، وهذه الثقافة من التنوع وقبول الآخر تظهر روحها بارزة فى العديد من روائع السينما المصرية، فالسينما دائمًا هى مرآة أى مجتمع والتى تعكس صورته ومعدنه الحقيقى.
المثال الأبرز والدليل الحى على ذلك يبُرز فى حالة مثل فيلم «غزل البنات»، إحدى أيقونات الشاشة الفضية المصرية طيلة ١٠٠ سنة سينما، فهذا العمل تجد أبطاله مختلفى الديانة، منهم المسلم والمسيحى واليهودى، لكن تلك الفوارق لم تكن تشغل أحدًا أو يلتفت لها البعض.
فالمجتمع المصرى كان مجتمعًا إنسانيًا بحتًا، متحد الهوية، لا يهتم بالدين أو العرق أو غير ذلك، وكل المشاكل الطائفية التى ظهرت وجِدت لتغذية الصراعات السياسية، لذا فأنا من المؤمنين بالمقولة الرائجة التى تؤكد أن «الدين لله والوطن للجميع».
وأرى أن حالة التردى التى عانينا منها بمثابة «آثار جانبية»، سببها تراجع مستوى التعليم فى مصر، فالدولة خلال العقود الماضية- للأسف- تركت الساحة مفتوحة أمام الجماعات الدينية فسمموا أفكار الأجيال المتعاقبة.
خلال حقبتى الخمسينيات والستينيات وقت كنت طالبًا فى مراحل التعليم المختلفة كانت مدرستى تضم طلابًا مسلمين ومسيحيين، لا يمكن تفرقتهم عن بعضهم، لأن آخر ما كنا نسأل عنه هو ديانة بعضنا، لكن حاليًا أصبح المجتمع المصرى مختلف الطباع كثيرًا عن ذى قبل، وأصبحت هناك ثقافة جديدة تلون حائط المجتمع، الذى اعتاد دومًا أن يكون ذا صبغة واحدة طيلة تاريخه.. هذه الصبغة ذات ألوان التسامح والحب والود تم استبدالها بأشياء بعيدة كل البعد عن هويتنا.
قديمًا كنا نرى الأديان فى الأصل عبارة عن «معاملة» وليس مجرد «عبادة»، وأنا واحد من المؤمنين قولًا وعملًا بأن «المعاملات أصل والعبادات فرع»، وأستشهد على ذلك بوجهة نظر خاصة بشخصى.. مثلًا مخترع دواء السل أو مكتشف علاج مرض البلهارسيا، أعتقد أن مصير هذين سيكون الجنة، لأنهما نفعا البشرية التى خلقها الله لتعمر كونه، ودائمًا ما نقول: «من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا»، وهؤلاء العلماء أفضل كثيرًا من الرهبان والشيوخ المعتكفين فى الأديرة والمساجد.
وهناك حقائق فى حياتنا ودنيانا لا تقبل تشكيكًا أو تبريرًا، ومن أبرز هذه الحقائق هو أنه ليس للطقوس الدينية أى قيمة إذ لم تكن مقرونة ومشفوعة بعمل صالح، ففريضة مثل الصيام فى الدين الإسلامى ليس الهدف الأساسى منها هو مجرد الامتناع عن الطعام والشراب، بقدر ما أن جوهرها يمثل تدريبًا عمليًا على الشعور بمتاعب الجوع وألم الحاجة التى يشعر بها الفقراء.
لذلك حين تدقق النظر جيدًا تكتشف أن فلسفة الصوم الخاصة هى الحث على مساعدة المحتاجين وتقوية الصبر وغير ذلك من الفضائل، وبنفس الدرجة نجد كل العبادات ليست سوى جسر لمعاملات خير وأبقى بين الناس.

محمد رفعت ومصطفى إسماعيل أسقيانا طربًا ومحبة

الموسيقى فى حياة الفنان راجح داود تشبه المدينة التى يجد بداخلها متعة للنفس وراحة للجسد وبهجة للروح، وباعتبارها الضلع الأهم فى حياته لابد أن تكون فى الحديث معه وقفة بشأنها فكان السؤال: كيف بدأ اللقاء مع ذلك الفن الراقى؟ وكيف وصلت العلاقة لهذه الدرجة من الارتباط؟.. فأجاب:
الارتباط بينى وبين الموسيقى سببه والدى، فهو واحد من أصحاب البصمة الكبرى التى طبعت أثرها على حياتى ومسيرتى، فرغم كونه صحفيًا فى الأساس، فإنه كان صاحب ذائقة فنية عالية الجودة مصبوغة بروح أدبية، وهذه الذائقة دفعته لتعليم أبنائه الفنون بمختلف أشكالها، لكنى ومعى شقيقى الأكبر اخترنا الغوص فى بحر الموسيقى.
لذلك أدين لأبى بفضل كبير فى ارتباطى بذلك الفن الراقى من ناحية، ومن ناحية أخرى فإننى أدين له بالكثير فى تربيتى وتنشئتى على مجموعة من القيم والمبادئ كانت السراج المنير الذى سارت عليه حياتى، فقد علمنى التحلى بالأخلاق النبيلة التى تشبه شجرة عظيمة تتدلى من فروعها ثمار الصبر والتحمل والمثابرة والإخلاص والتواضع.
ورغم المكاسب العديدة التى تعلمتها من والدى، خالفته فى شغفه بالقراءة، فلم أشحن طاقتى بحبها مثلما كان يفعل، فعلاقتى بالكتب ظلت علاقة عشوائية أنجذب إليها حينًا وأخاصمها أحيانًا أخرى، لكنى بشكل عام أميل إلى مطالعة المؤلفات التاريخية. المبادئ التى علمنا أبى إياها كانت أشبه بالسلم الذى صعدت عليه خلال رحلتى، ثم جاء تعلم ودراسة الموسيقى ليمنحانى نوعًا من السكينة والهدوء والسلام النفسى، وحين احترفت عشقها كان هدفى من ذلك هو المتعة والاستمتاع، ولم أشغل بالى مطلقًا بالدخول فى منافسة أو مسابقة مع أحد.
الموسيقى فى حياتى فلسفة ذات نغمة خاصة جدًا، وحين بدأ شغفها يداعبنى ويسيطر على تكوينى وجدت نفسى أميل إلى سماع الموسيقى الغربية ولم تهوَ أذنى نظيرتها العربية، كالتى يقدمها «عبدالوهاب» وتدندنها أم كلثوم، لأنى كنت تواقًا لسماع موسيقى ذات نسيج هارمونى وليست ذات النسيج اللحنى.
لكن بعد الاقتراب والوصول لمرحلة النضج الفنى بدأت فى التفرقة بين ما يجب فعله وتقديمه وما يجوز سماعه، لذا عدت من جديد لسماع الموسيقى العربية التى خاصمتها، وحينها اكتشفت أن لدينا عباقرة أمطروا هذا الفن بسحائب من المحبة والإبداع.
ففى حالة الموسيقار على إسماعيل، تجد هذا الرجل قد أحدث طفرة وتطويرًا كبيرًا على مستوى لغة الموسيقى التقليدية، بل إنه تقريبًا- ومع الراحل العظيم بليغ حمدى- استطاعا نقلها إلى عهد جديد ومختلف، وأيضًا الموسيقار الكبير محمد عبدالوهاب، الذى كان أول من قدم مقطوعة موسيقية دون غناء، فى حالة كانت فريدة ونادرة فى زمانها، بينما الآن تجدها وقد أصبحت ظاهرة عادية. طيلة الوقت كنت أسعى إلى ممارسة الموسيقى بصدق، لأنه عندما يصل الفنان إلى مرحلة الصدق فى الأداء ينتقل تلقائيًا إلى المرحلة التى تليها، المتمثلة فى الوصول لقمة هرم الإبداع، ووقتها يتوحد مع فنه ليصبح مرآته التى يشاهد خلالها روحه وأحلامه التى تسرى بين ضلوعه، والفن الجيد دائمًا هو نتاج لمعادلة طرفيها هما الموهبة والثقافة.
تلك الثنائية، بعيدًا عن عالم الموسيقى تتجلى فى دولة التلاوة المصرية، ففى وقت ما كان كل قارئ مصرى مدرسة قائمة بذاتها، مثل الشيخين محمد رفعت ومصطفى إسماعيل، اللذين كانا مثل الينابيع التى تسقى المستمعين طربًا وشجنًا ومحبة، لكن للأسف عندما ندرت الموهبة وشحت الثقافة اختفت هذه المدارس الملهمة ولم يعوضها أحد حتى الآن، فالقراءات الحالية التى نسمعها من المعاصرين ليست إلا «عشوائيات».

أرى الله فى الكون كله.. وهو أكبر من تصور العقل

أخذتنا الموسيقى بصخبها وشجنها فى الحديث مع الموسيقار راجح داود، وهى بطبيعة الحال واقع لابد أن يفرض نفسه، لكن وسط نغمات الحوار، طلبت منه العودة لجوهر الحديث، ألا وهو «الله فى حياة راجح داود»، فقال:
الله فى حياتى هو الكون كله، وأكبر من قدرة العقول على التصور والإدراك، وأعمق من استيعاب الأفئدة على التخيل، عرفته منذ أول نفس لى، وحينها لم أكن أعى شيئًا، وتدريجيًا بدأت أعرفه أكثر فى نعمه وفضله.
أدركته بشدة وقت الإحساس بالألم، وتعمق إيمانى به فى لحظات الإحسان الممزوجة بنشوة الفرح التى ينعم بها علىّ، وفى كل وقت من حياتى كنت أشعر بالله يقف بجانبى وعنايته ترعانى، لذا أقول ليس مهمًا أن نراه، بل الأهم أن نشعر به، وبالإيمان بقدرته والرضا بقدره والصبر على بلائه والشكر على نعمائه، ولم أشغل نفسى مطلقًا برؤيته قدر اهتمامى بأن ينظر إلىّ ويتطلع إلى قلبى فيمنحنى لُطفًا وكرمًا وفضلًا لا أشقى بعده أبدًا.
منذ زمن بعيد وأمد طويل وقلبى معلق بكل آيات الله فى الكون، غير أن الخلق ذاته هو أكبر حكمة وآية إلهية عظيمة، الخلق الذى أقصده يشمل النباتات وهى تنمو وتزدهر، ففيها يتجلى الله بحكمة يعلمها، ويشمل المريض حين يشفى، فوقتها يتجلى الله بدعوة يتقبلها، والمولود حين يصير طفلًا فرجلًا ثم يصبح كهلًا، عندها يتجلى الله فى رحلة هو خالقها وصانعها، وحين تسود الرحمة وينتشر الجمال وتنتصر الإنسانية، لحظتها يتجلى الله بكلمة حق ينصرها من عنده.
بعد أن وصلت نفسى لهذه الدرجة من اليقين، أعتبر نفسى من الشخصيات التى تفكر وتعيش حياتها بشكل واقعى، فأنا وإن كنت مؤمنًا بأن أفضل الأيام هو الغد، لكنى دائمًا ما أستمتع باللحظة التى أحياها، ويبقى فقط هناك حلم يشغلنى ويداعبنى، وهذا الحلم بالمناسبة هو أمل كل جيل، ألا وهو أن تكون مصر دولة وأمة دائمًا فى عز شبابها، بلدًا جميلًا تسكنه روح المحبة وتغشاه السكينة، مثلما نصفه ونقول عنه فى كل الأوقات إنه «بلد الأمن والأمان».
الآن، وأنا فى هذه المرحلة التى أراها بمثابة «ربيع العمر» بعدما بلغت من الكبر ما يمنحنى خبرة ونضوجًا فى الحكم على الأشياء، أحاول وأسعى وأنا أتبادل الحديث مع أبنائى ومن بعدهم أحفادى، أن أغرس داخلهم نفس الصفات النبيلة التى تربيت عليها، مع مراعاة فارق الزمن وطبيعة الأجيال، لكن الحقيقة التى أركز عليها، ولا أجد لها تحويلًا فى زماننا وغير زماننا، هى أن المعاملات دومًا تسبق العبادات، وهذا المعنى هو جوهر الحياة.