رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الرسول في مصر«20»..

محمد الباز يكتب: العاشق الزاهد.. خالد محمد خالد يرسم صورة خاصة للنبى محمد

محمد الباز
محمد الباز

يُخطئ من يحاصرون الكاتب الكبير خالد محمد خالد فى خانة «الكاتب الإسلامى».
الإنصاف يقتضينا أن نصفه بأنه «كاتب إنسانى»، فخلال ما يقرب من خمسين عامًا، هى مشواره فى عالم الكتابة أنجز خلالها ما يقرب من أربعين كتابًا، ظل يبحث عن الإنسان، يسعى لتحريره من كل القيود التى تحيط به باسم الدين مرة، وباسم السياسة مرات.
خالد من أبناء الأزهر تخرج فى كلية الشريعة من الجامعة العريقة، لكنه لم ينتظم فى العمل لا واعظًا ولا إمامًا، اختار أن يعمل مدرسًا سنوات قليلة، ثم استقر فى وزارة الثقافة مستشارًا للنشر، حتى طلب أن يخرج على المعاش فى العام ١٩٧٦، أى قبل وصوله إلى الستين بست سنوات كاملة، فقد اختار أن يعمل كاتبًا، وهى المهنة التى حوّلته إلى راهب، يأكل من قلمه.. رافضًا عروضًا كثيرة مغرية للسفر إلى الخارج.
كان خالد محمد خالد يتحرك بروح صوفية حقيقية، لم يسع إلى مكسب ولم يقف على باب سلطان، بل كان من هؤلاء الذين يقولون كلمتهم ويرحلون غير ناظرين إلى الخلف.
الدفاع عن الإنسان كان المحرك الأساسى لخالد فى كل ما كتبه.
ولأنه كان يعرف أن النبى محمد، صلى الله عليه وسلم، ما جاء إلا من أجل الإنسان، فقد واصل السباحة فى عالمه، للدرجة التى جعلته يكتب عدة كتب كان النبى العامل المشترك بينها جميعًا.
يظهر هذا من عناوين هذه الكتب، فعندما تراجع قائمته، ستجد فيها تسعة كتب هى: «معًا على الطريق.. محمد والمسيح»، «أفكار فى القمة»، «إنسانيات محمد»، «كما تحدث الرسول»، «رجال حول الرسول»، «عشرة أيام فى حياة الرسول»، «خلفاء الرسول»، «لقاء مع الرسول»، «الإسلام ينادى البشر».
كان خالد عاشقًا متيمًا للنبى، صلى الله عليه وسلم، وقد رزقه الله هذا الحب وأنعم عليه بالتعبير عنه.
من يعرفون خالد محمد خالد جيدًا، يحكون لنا أنه كان يحب شهر ربيع الأول حبًا فى رسول الله، ففى هذا الشهر كان يستشعر الدفء والأمان فى رحاب ذكراه أو الكتابة عنه.
من بين ما كان يحبه خالد محمد خالد قصيدة «البردة» بصوت الشيخ عبدالعظيم العطوانى، يسمعها تقريبًا كل يوم، ولما مات فى فبراير من العام ١٩٩٦، وأثناء جنازته فى قريته «العدوة» بمحافظة الشرقية، كانت السيدة أم كلثوم تشدو بقصيدتها «نهج البردة»، يصل صوتها إلى المشيعين حتى وصلوا إلى قبره، وكأننى بالنبى، صلى الله عليه وسلم، كان رفيقه إلى قبره.
ولا أحد يعرف على وجه التحديد هل كانت هذه وصيته، أم أن الأمر كله تم بالمصادفة، رغم أنه لا شىء فى هذا الكون يحدث مصادفة؟
فى بداياته لم يكتب خالد عن النبى منفردًا، كان يقرنه بآخرين.
الكتاب الأول الذى يقابلنا هنا هو «معًا على الطريق.. محمد والمسيح» الذى ظهرت طبعته الأولى فى العام ١٩٥٦.
ما الذى كان يريده خالد من هذا الكتاب؟
الإجابة يمكن أن تأتينا من الإهداء الذى أثبته قبل أن يدخل إلى عالمى محمد والمسيح، قال: إلى الذين يعملون فى مثابرة ومحبة.. من أجل الإنسان ومن أجل الحياة.
لا يضيع خالد وقتًا، يخاطب قراءه: هذا ما أريده تمامًا، أن أقول للذين يؤمنون بالمسيح وللذين يؤمنون بمحمد، برهان إيمانكم، إن كنتم صادقين، أن تهبّوا اليوم جميعًا لحماية الإنسان وحماية الحياة، وليس هذا الكتاب تأريخًا للمسيح، ولا تأريخًا للرسول، فتاريخهما قد بسط بسطًا لا يشجع على التكرار، وإنما هو تبيان لموقفهما من الإنسان ومن الحياة، أو بتعبير أكثر سدادًا، موقفهما مع الإنسان ومع الحياة.
إنه يكشف لنا بسهولة ودون عناء، ودون أن يطلب أحد منه ذلك.
يقول: لقد أخذنى حنين واع إلى الكتابة عن الرسول وعن المسيح، وفى ذات الوقت كان ينادينى الواجب الذى كرست له أو أريد دومًا أن أكرس له حياتى، وهو الإسهام فى حماية الإنسان والحياة من الكذب ومن العجز ومن الخوف.
هذه الثلاثية تحديدًا تسلمنا إلى الكتاب الذى أراه الأهم بالفعل من بين كتب خالد، رغم أنه ليس مشهورًا مثل بقية كتبه الأخرى.
أحدثكم عن كتابه «أفكار فى القمة» الذى وضع فى بدايته دعوة إلى المتعبين قائلًا لهم: إلينا يا من أتعبكم الظلام.
بتواضع شديد يقول خالد: لست فى هذا الكتاب مؤلفًا إنما أنا قارئ، ومع الفكر الإنسانى فى شتى آفاقه سنمضى معًا وقتًا طيبًا مباركًا فيه، وهذه المختارات التى طالعتها بين ما طالعت عزيزة علىّ أثيرة لدىّ، ومن أجل هذا أحببت أن تشاركونى متعتها والانتفاع بها، وهى قليل من كثير مما تركه لنا الفكر العظيم، وهذه المجموعة التى اخترتها تمثل ما تيسر لى تذكره ثم الرجوع إلى مصادره ونشره، وحين شرعت أختار، لم يندّ عن ذاكرتى الغرض، ولا الموضوع، وتألقت فى وجدانى ناصعة معظم المواقف التى التقيت عندها ذات يوم بكلمات الفكر الرفيع.
لقد أخذ خالد محمد خالد كلمات ممن تعامل معهم على أنهم أصحاب الأفكار التى بنيت على أكتافها الحياة.. وفى مقدمة حول وضع النبى محمد، صلى الله عليه وسلم، يحدثنا عما فعله، يقول: كان أول ما التمع منها فى خاطرى كلمات سديدة رشيدة قوية، تشكل موقفًا باهرًا ضد ما فى الحياة البشرية من عجز وكذب وألم، ولم تزاور الكلمات عن ذاكرتى، كما لم يغب عنها قائلها ومرسلها، إنه محمد بن عبدالله، عليه صلاة الله وسلامه، ومحمد هذا الرسول الصادق الأمين أحب البشرية من قلبه الكبير، وأعطاها من ذات نفسه، ما يجعل مكانه الأول دومًا، كلما جاء ذكر الذين آزروها ومهدوا لها الطريق، وهكذا أسعد الله صفحات هذا الكتاب ببداية سعيدة تلك هى مع محمد ضد العجز والكذب والألم.
وضع خالد محمد خالد يده على كتف النبى، صلى الله عليه وسلم، لكن هذا لم يمنعه من أن يقف على باب عدد من المفكرين والفلاسفة الكبار ليستمع لما عندهم.
فعندما يغادر هذه القمة العليا التى التقى عندها الوحى بالفكر، يولى وجهه شطر أفذاذ من الخلق يفكرون بأصوات عالية مبهجة، فيلتقى فى الصين «لاوتس» و«كونفشيوس» و«منشيس» عمالقة يستنبطون الحكمة من أعماقها، ويهدون إلى سواء السبيل.
وفى الهند يلتقى بوذا، وفى مصر القديمة يصغى لـ«أمنموبى» و«بتاح حوتب» و«خيتى» وهم يفكرون تفكيرًا أخلاقيًا عذبًا.
ويتلاشى الزمان والمكان فيرى نفسه وجهًا لوجه أمام « توم بين» إحدى معجزات العبقرية البشرية والضمير الإنسانى، إنه القائل: هذا العالم قريتى الصغيرة.
ويلتقى بعده «جوركى» فتأخذه صلصلة فكره المقتحم وتشجيه تغاريده، وهو يغنى للحقيقة وللمستقبل.
ويودع جوركى سراعًا ليلتقى «إقبال» شاعر الهند وباكستان، وفيلسوفهما الكبير، سيقرأ له وهو يتحدث عن التجربة الدينية، وعن مكانها فى عصر العلم والتجريب.
وبعد «إقبال» يصافح «فرويد» الرجل الذى له على فضح النفوس وكشف خفاياها مقدرة خارقة، بيد أنه مع هذا يهدى للبشرية من خير أطايب الفكر البشرى وأكثرها نفعًا.
ويلتفت خالد محمد خالد إلى جرس يقرع، تردد دقاته كلمات «رابليه»: هنا ادخلوا.. ادخلوا جميعًا لندعم الإيمان العميق، وعندما يدخل يلتقى الكاتب الفرنسى الكبير «ديهاميل» حيث الإيمان العميق الذى جلس هناك يدعمه، الإيمان بالفكر وبرسالة الأدب والفن.
ويسارع خالد فيجد طائرًا مغردًا، إنه «إمرسون» الحكيم الذى لا يمل الناس سماع حكمته، إنه هو الذى قال: إن من يختار الراحة لن يشاهد الحقيقة، ويقول: من يختار الحقيقة يقضى العمر سابحًا بعيدًا عن كل مرفأ.
ويسرع خالد بخطاه نحو العملاق «تولستوى»، الرجل الذى ودّع الراحة والمرافئ وآثر رفقة العذاب العظيم النبيل بحثًا عن الحقيقة، مختارًا أن يختم رحلته به، لأنه بين مفكرى البشر واحة يلتمس عندها الهناء.
فى هذه الرحلة التى بدأها خالد محمد خالد بالنبى محمد، صلى الله عليه وسلم، نمسك به وهو يقدس الفكر الإنسانى.
يسأل هو: ترى إلامَ كانت الحياة ستصير بدونه؟
ويجيب هو أيضًا: لا شىء، بل ودونه لا توجد للبشرية حياة، الولاء للفكر إذن، والإجلال للكلمة، ولكن من يقولها فى شرف، وفى صدق، وفى شجاعة.
أعرف أن هذا الكتاب يمكن أن يثير حول خالد محمد خالد الزوابع.
فكيف له أن يضع النبى، صلى الله عليه وسلم، فى قائمة واحدة مع هؤلاء؟
أليس يسير بذلك على طريق هؤلاء الذين يتعاملون مع النبى على أنه بشر؟
ألا يساوى بينه وبين هؤلاء من أصحاب الديانات الأرضية والمذاهب الإنسانية؟
خالد محمد خالد أذكى من ذلك بكثير بالطبع، حبه للنبى، صلى الله عليه وسلم، يجعله بعيدًا عن هذه التهمة، لكنه ورغم حبه للنبى ذاك الحب المتفرد، فإنه يؤمن بقيمة الفكر الإنسانى، ولا يمكن أن يتجاهل هؤلاء الذين منحوا الإنسانية من أفكارهم ما كان سببًا فى هداها.
أعتقد أن هذا الكتاب لم يأخذ حقه كما ينبغى.. وقد تكون كتابات خالد فى الإسلاميات بعيدًا عن كتاباته السياسية التى جارت على هذا الكتاب وغيره، وأعتقد أيضًا أنه فى حاجة إلى قراءة أخرى، فلو أخذنا بما فيه لتخلصنا من أمراض فكرية كثيرة أورثتنا إرهابًا وتطرفًا وحربًا وخرابًا.
ولأنه يبحث عن الإنسان، كان طبيعيًا أن نجد من بين كتب خالد كتابًا رائعًا هو «إنسانيات محمد»، وكان طبيعيًا أن يكون إهداؤه إلى النبى، صلى الله عليه وسلم، بكلمات رقيقة، يقول: يا من جئت الحياة فأعطيت ولم تأخذ، يا من قدست الوجود كله ورعيت قضية الإنسان، يا من زكيت سيادة العقل وروضت غريزة القطيع، يا من هيأك تفوقك لتكون سيدًا فوق الجميع فعشت واحدًا بين الجميع، يا من أعطيت القدوة وضربت المثل وعبّدت الطريق، يا أيها الرسول والأب والصديق، إليك أُهدى هذه الصفحات فى حياء من يعلم أنه يجاوز قدره بهذا الإهداء.
يقتحمنا خالد محمد خالد بحديث مختلف عن النبى، صلى الله عليه وسلم.
يقول فى تقديمه كتابه: لو لم يكن محمد رسولًا، لكان إنسانًا فى مستوى الرسول، ولو لم يتلق الأمر من «يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك» لتلقاه من ذات نفسه، يا أيها الإنسان بلغ ما يعتمل فى ضميرك، ذلك أن محمدًا الإنسان جاوز نضجه وارتقاؤه كل تخوم الذات وحدودها، ولم يكن ثمة سبيل لوقف انتشار هذا النضج، وهذا الارتقاء خارج الذات وخارج البيئة بل خارج كل زمان وكل مكان، إن عظمته التى فرضت نفسها، ونادت إليها ولاء المؤمنين، وإعجاب المعرضين، عظمته التى لبثت زهاء ألف وأربعمائة عام، وستظل دومًا ترسل ضياءها وثناها، وتبث فى ضمير الزمن رشدها ونهاها، عظمته هذه تنبع أول ما تنبع من إنسانية محمد، من الطريقة التى كون بها نفسه، ووجدانه وعقله تحت عين الله ورعايته، ومن الموقف الذى اختاره والتزمه تجاه الكون والناس والحياة، والحق أن محمدًا الإنسان شىء باهر، فإذا التقى به محمد الرسول فإن عظمته، آنئذ، تجاوز كل حدود الثناء.
ويسأل خالد محمد خالد نفسه قبل أن يسأله غيره: ولكن لماذا أضع الإنسان مقابل الرسول؟ أو ليس الرسول إنسانًا؟
ويجيب هو بنفسه أيضًا: بلى إن الرسول إنسان، وإنما أريد بصفة الإنسان هنا التنبيه إلى أننى أركز الحديث على الطابع البشرى المحض الذى يشترك فيه محمد مع غيره من الناس، والذى تفوق فيه على من سواه، فهذا الطابع البشرى بكل انفعالاته وبساطته وتلقائيته هو الذى يبهجنا ويبهرنا، لأنه من صنع واحد منا، واحد مثلنا، ومن ثم فهو يمنحنا ثقة بأنفسنا واحترامًا عظيمًا لبشريتنا التى تنجب مثل هذا الطراز الرفيع من الخلق.
هذا مدخل عبقرى لقراءة حياة النبى، صلى الله عليه وسلم، وأعتقد أن مصرية خالد هى التى جعلته ينظر إلى النبى، صلى الله عليه وسلم، من هذه الزاوية التى لا يقدر عليها كثيرون، وأعتقد أن مثل هذه الكتابات جعلت كثيرين يتجنبون الحديث عن خالد، فلم يكتب أحد مثله عن النبى، لكنه كتب كما يرى هو، لا كما يريده الآخرون أن يرى.
هذ الروح جعلت خالد يسعى إلى لقاء الرسول.
فمرة يستمع منه فى كتابه «كما تحدث الرسول».
ومرة يلتقى به كما فى كتابه «لقاء مع الرسول».
ينطلق خالد محمد خالد فى الكتابين من أرضية أن هناك كثيرين توفروا على شرح الأحاديث النبوية المباركة وتقديمها للفكر الإسلامى وإثرائه، وكان لهؤلاء منهجهم التقليدى والواعى الذى عبّروا عنه تعبيرًا ذكيًا جامعًا فى إطار أزمانهم وأيامهم، وفى عصرنا بدا أن القارئ المسلم فى حاجة إلى أن يطالع أحاديث رسولنا الكريم مرة أخرى بأسلوب العصر الذى يعيشه واجدًا المزيد من الضوء يلقى على الذخائر المستترة فى محتويات تلك الأحاديث جامعًا بينها وبين قضايا العصر واحتياجه ورؤاه.
لم يدّع خالد محمد خالد أنه استوعب فى كتابيه كل ما كان يتمنى أن يقوله ويقدمه من أحاديث الرسول، وإنما أراد أن يقدم نموذجًا للطريقة التى ينبغى أن تقدم بها اليوم وفى عصرنا أحاديث الرسول، صلى الله عليه وسلم.
هنا اجتهاد محمود ينسب لخالد محمد خالد لم يلتفت له كثيرون، وهو ما يجعلنى أميل إلى أن هذا الرجل لم يحصل على ما يستحقه فى مسيرة فكرنا الإنسانى، رغم أنه يستحق الكثير.. لقد فتح لنا طرقًا جديدة لقراءة النبى، صلى الله عليه وسلم، طرقا منح بها نظرات عصرية لسيرة النبى ولأحاديثه، لكن هناك من حاول تغييب هذا المنهج وصاحبه، لأنه لا يروق لهؤلاء الذين يريدون لنا أن نعيش فى الماضى كما كان تمامًا.
ما فعله خالد أنه جاء بالنبى، صلى الله عليه وسلم، إلى عصرنا، عقد صلحًا بيننا وبين عصره دون أن يدّعى أنه صاحب فلسفة أو شيخ طريقة رغم أنه كان كذلك بالفعل.
الزاوية التى دخل بها خالد محمد خالد إلى حياة النبى، صلى الله عليه وسلم، جعلته ينظر إليه نظرة مختلفة، وهو ما يبدو فى تقديمه كتابه «عشرة أيام فى حياة الرسول».
أسمعه وهو يقول: منذ أهلّ على الحياة فوق هذه الأرض، وكل قوى الحياة ومظاهرها فى خضم التغيير، فلم يكن، عليه صلاة الله وسلامه، مجرد إنسان يجىء إلى الدنيا فى زحام الوافدين عليها كل صباح ومساء، بل كان قوة طبيعية جاءت تسيطر على الزمان والمكان، وتعيد تشكيل الناس وتشكيل الحياة، بل كان أكبر من ذلك، كان قوة إلهية جاءت لترد الروح الإنسانى إلى مداره الأول حول الله الحق الذى خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور.
هنا يفتح الستار كاملًا عن رؤيته للنبى، صلى الله عليه وسلم، فهو قوة جبارة مؤيدة من السماء للتغيير، ولأن خالد محمد خالد أدرك حقيقة الرسالة، فقد سعى إلى البحث فى النبى على ما يجعل هذه القوة دائمة ومتجددة، فكل اعوجاج فى الحياة يستحق الثورة عليه.
شاءت الأقدار أن يكون آخر كتاب لخالد محمد خالد عن النبى محمد، هناك من يطلق على هذا الكتاب «إلى هذا الرسول»، وهناك من يطلق عليه «الإسلام ينادى البشر».
وحتى نفصل فى الأمر دعونا نستمع إليه للمرة الأخيرة هنا.
يقول خالد فى تقديمه كتابه الأخير، الذى نفهم منه أنه أطلق عليه «الإسلام يدعو البشر إلى هذا الرسول»: فى عام ١٩٨٥ رغب المسئولون عن مجلة الحرس الوطنى السعودية فى أن أكتب لهم مقالًا دوريًا، واستجبت لرغبتهم الكريمة، وبدأت أكتب، ولم يأخذنى تفكير طويل فى الموضوع الذى سيستأثر بكتابتى وبقلمى، ذلك أنه كان ثمة موضوع ينادينى فى إلحاح وأنا أتمناه فى شوق، كان الموضوع عبارة عن تقديم الإسلام- كما أفهمه- إلى عالمنا المعاصر، لعله يجد من أمره رشدًا، ولعله حين يقرأ هذه الكلمات يجد فيها ما وجده آباؤه السالفون فى غيرها من نور هذا الدين وحكمته، واخترت العنوان الذى أبث فيه فكرتى تباعًا وكان «الإسلام ينادى البشر».
يستكمل خالد حكايته الأخيرة: كتبت بضعة مقالات وأنا بها سعيد، حتى أدركتنى فجأة بداية مرض طويل، فرحت أحاول وأستنجد ببقايا صحتى وعافيتى، حتى جاءت الأيام التى كلّ فيها متنى، وتخلى عنى جهدى، فاكتفيت بما كتبت للمجلة، ولجأت إلى الله الفتاح العليم ألا يحرمنى من إتمام نعمة هذا الكتاب، الذى تصورته وسيلة خلاص ناجعة لهذا العالم المتخبط والتعس، وأخذ المرض، لا أدرى أقول، يداعبنى أم يشاغبنى، ولم يكن أمامى سوى الطمع فى فضل الله وانتظار فرجه القريب.
غالب خالد ما جرى له، يقول: ما كان للشوق الحميم أن يتركنى للهدوء والتصبر، فقد كان تفكيرى كله فى هذا الكتاب، ورغائبى كلها فى أن أحمل قلمى مرة أخرى لأبث به ما يفتح الله به من كلمات، وجاء يوم يحمل إشراقة الأمل، وصحوة العمل، فمضيت مع الكتاب محاولًا قدر جهدى أن أمضى معه وفيه خطوات تشجعنى على عزيمة السير والمتابعة، كانت رغبتى فى إتمامه مواكبة لإحساسى بقرب الرحيل، وكان همى كله أن أفرغ منه قبل أن أدعى فأجيب، فرحت أعد الخطى وأقتحم الصعب مما جعل المرض يشتد ويقوى، ولم يعد يبدو لى إمكان تأليف الكتاب كله، وقبل أن يقيد الكسل واليأس خطاى، أشار علىّ ابنى بأن أكتبه مُجزءًا، ويصل للقارئ فى أجزاء، كما حدث فى كتاب «رجال حول الرسول» الذى صدر فى خمسة أجزاء، ثم لا يحمله القارئ اليوم إلا مجلدًا واحدًا، ينتظم الأجزاء الخمسة، وتذكرت الحكمة القائلة: ما لا يدرك كله لا يترك كله، ومضيت أستأنف كتابة ما رأيت أن يكون الجزء الأول من الكتاب، وهو هذا الذى يحمله القارئ بين يديه.
الأمر لا يزال فى حاجة إلى توضيح، ولذلك يختم خالد كلامه بـ: ولكن إلى أى شىء ينادى الإسلام البشر؟ هذا طبعًا موضوع الكتاب، فهو ينادى البشر: إلى هذا الرسول، وإلى هذا القرآن، وإلى هذه الدين، وإلى هذه التجربة، وهذا هو الجزء الأول «الإسلام ينادى البشر إلى هذا الرسول».
هذا باختصار شديد خالد محمد خالد، وهذه باختصار أيضًا كتبه عن النبى.. وأعتقد الآن أنك تتفق معى فى أن هذا الرجل يجب أن ننزله المنزل الذى يستحقه، وتستحق كتبه أن نقرأها من جديد.