رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ثروت الخرباوى يكتب: فى الدراما البوليس لمصر.. ولكن!

ثروت الخرباوى
ثروت الخرباوى

شغلتنى شخصية ضابط الشرطة فى الدراما، فحينما كنا أطفالًا كنا نرى أنفسنا فى أمنياتنا ضباطًا يقبضون على المجرمين، فيشترى لنا الآباء مسدسات لعبة نستخدمها فى ألعابنا، وتتذكرون معى لعبة «عسكر وحرامية» وكيف كانت معاركنا فى طفولتنا أن كل واحد منا كان يبحث عن دور «العسكر» ويهرب من دور «الحرامية»، إلى أن يستقر بنا الأمر، فنتفق على تبديل الأدوار فيما بيننا، فتارة لصوص، وتارة بوليس، وإذا الحياة بعد ذلك عبارة عن لصوص وبوليس، عسكر وحرامية، وإذا باللعبة تصبح حقيقة، ثم تدور الأيام كما تدور بكرة الأفلام فيختلط علينا الأمر عندما نرى الحقيقة وقد أصبحت لعبة.
كيف حاولوا تشوية صورة الضابط بالدراما؟
كان الشريط عندما تدور به بكرة الأفلام فى سابق الأيام تتحرك من خلاله صور متتابعة على الشاشة، وكانت عيوننا تتسمر على الشاشة خوفًا من أن يكشف اللصوص أمر ضابط البوليس الذى اندس بينهم ليكشفهم، كنا نخاف على محسن سرحان فى فيلم «سمارة» عندما كاد زعيم العصابة أن يكشف أمره، وقد ترى أحدنا وهو يبكى عندما قُتلت حبيبته سمارة، ولكننا كنا نعجب به وهو يحمل جثمانها بذراعيه المفتولتين وقوامه المنتصب، فتنطبع فى أذهاننا صورة الضابط الشهم القوى الذى يمكن أن يضحى بحياته من أجل أن ينقذ بلده من اللصوص، أما عندما تحرك البوليس كله فى فيلم «حياة أو موت» لينقذ المواطن المصرى البسيط أحمد إبراهيم الساكن فى دير النَّحاس، كنا نلهث مع حكمدار العاصمة يوسف وهبى، ونسمع النداء الذى قام بتوجيهه فى الراديو: «من حكمدار بوليس العاصمة إلى أحمد إبراهيم القاطن فى دير النحاس، لا تشرب الدواء، الدواء فيه سم قاتل» ونظل ندعو الله ونحن نسمع النداء ونتمنى أن ينتبه المواطن أحمد إبراهيم فلا يتناول الدواء الذى اشترته له ابنته، وابنته تقترب من البيت حاملة زجاجة الدواء، فنقول: «يا رب ياخد باله» وتتعالى أنفاسنا رعبًا مع اقترابها من البيت، إلى أن تصل زوجة المواطن أحمد إبراهيم قبل أن يتناول الدواء، ويدخل على إثرها حكمدار العاصمة بذات نفسه ليطمئن على أن المواطن نجا من الموت، فتنطبع فى أذهاننا صورة ثابتة هى أن البوليس ينقذ أرواح المواطنين.
وفى غضون عام ١٩٥٤ الذى أنقذ فيه حكمدار العاصمة حياة المواطن أحمد إبراهيم القاطن فى دير النحاس، يدور الشريط فنرى الضابط أحمد يسرى فى فيلم «ريا وسكينة» وهو يتتبع تلك العصابة الخطيرة ليقبض عليها، ولأننا كنا نحب أنور وجدى لذلك اقتنعنا به جدًا وهو يؤدى دور الضابط، وزاد حبنا له وهو يطارد أفراد العصابة، وخشينا عليه وعلى حبيبته من العصابة، وتقطعت أنفاسنا وهو يكيل لهم اللكمات، فيحيطون به ويضربونه، وهو يقاومهم بمفرده، وعندما يتم القبض على العصابة ويخرج الضابط أحمد يسرى منتصرًا ويصفق الناس تحية له فنصفق معهم، فيستقر فى ضمائرنا أن الضابط بطل، وأنه هو الذى يحفظ أمننا.
ونظل مع بكرة السينما وهى تدير الشريط، فنرى أعظم ضباط الشرطة فى فترة الستينيات، صلاح ذوالفقار، وقد كان فى مقتبل حياته ضابطًا شجاعًا، وسنعرف من حياته الحقيقية أنه كان أحد الضباط الأبطال الذين واجهوا الجيش الإنجليزى فى الخامس والعشرين من يناير عام ١٩٥٢ فى مدينة الإسماعيلية، وإذا بصلاح ذوالفقار يطل علينا عبر الشاشة من خلال دوره كضابط شرطة، ومن ذا الذى يستطيع أن يجارى صلاح ذوالفقار فى هذا الدور؟ هو لم يكن يمثل على الإطلاق، ولكنه كان يؤدى دوره الحقيقى، كل ما فى الأمر أنه كان يؤديه أمام الكاميرات، ولكننا عندما كنا نشاهده على الشاشة ننسى الكاميرات، ولا نرى إلا الضابط «كمال» فى واحد من أعظم أفلام السينما المصرية «الرجل الثانى» ومعه فى الفيلم عمالقة التمثيل، والوحش الأسطورى رشدى أباظة، يظهر الضابط كمال- صلاح ذوالفقار- متنكرًا فى شخصية شاب لبنانى هو أكرم شقيق المغنية «لمياء» التى أدت دورها الفنانة صباح، ويندمج الضابط كمال مع العصابة، ويصبح واحدًا منهم، لينتظر الفرصة المناسبة هو وفريق البوليس لكى يعرفوا شخصية زعيم تلك العصابة، إذ لم يكن عصمت كاظم «رشدى أباظة» إلا الرجل الثانى فقط، ومن المصادفات الغريبة أن الفنان الراحل عبدالخالق صالح الذى أدى دور الرجل الأول، هو فى لعبة الحياة من فريق العسكر الذى يقبضون على الحرامية، فقد كان ضابط بوليس وترك الشرطة وهو لواء، فيكون الضابطان فى الحياة صلاح ذوالفقار وعبدالخالق صالح عدوين فى الفيلم! لأن أحدهما ضابط، والآخر زعيم عصابة، وقد أجادا فى دوريهما بشكل منقطع النظير، وقد ارتجفت قلوبنا عندما عرف المجرم كاظم أن كمال هو أحد ضباط البوليس، فرتب أمر نقل الأموال والمجوهرات بطريقة أخرى، ونجح فى تضليل البوليس، وتحدث مطاردات تلهث أنفاسنا معها وكأننا نحن الذين نجرى، إلى أن يقبض الضابط كمال على الرجل الأول، فستظل صورة الضابط فى أذهاننا عظيمة القدر، فهو البطل المقدام عندما يخاف الرجال، وهو الذى لا يخشى على روحه ولكنه يخشى على بلده.
وتمر السنوات على مهل لنرى فيلم «الخطايا» الذى ظهر على شاشات السينما بعد فيلم الرجل الثانى بثلاث سنوات، وعبدالحليم حافظ هو حبيبنا، نتعاطف معه ونتعاطف مع من يتعاطف معه، وحليم يخرج من بيته مطرودًا بعد أن يقول له عماد حمدى: «أنت مش ابنى، أنت لقيط»، فيخرج حليم هائمًا على وجهه، إلى أن تزج به الأحداث فى قسم الشرطة مع مجموعة من السكارى، فيراه الضابط زين العشماوى، ويلمح فى وجهه الطيبة، فيسأله عن اسمه، ويحتار حليم، وعندما يعرف الضابط زين العشماوى قصة حليم يتعاطف معه، ويتقاسم معه مرتبه، فيظهر لنا الضابط هنا فى صورة الإنسان، وهى صورة طيبة بريئة، ولا أخفيكم سرًا أننى رأيت هذه الصورة بحكم مهنتى فى المحاماة، رأيتها فى وجه عشرات من ضباط الشرطة من أصحاب القلوب الفياضة بالإنسانية.
وتظل صورة ضابط الشرطة براقة فى عيوننا، ولكن يحدث شىء ما فى حياتنا، فالنظام فى زمن الرئيس الراحل أنور السادات يريد أن يصنع لنفسه مكانة فى عيون الشعب، ويبدو أننا لا نصنع مكانتنا إلا إذا قمنا بتحطيم الصورة الجميلة للزمن الذى يسبقنا، هل للجينات المصرية دخل فى هذا الأمر؟! الله أعلم، ولكن أيًا ما كان الأمر بدأت صورة الضابط تهتز فى عيوننا قليلًا مع فيلم «الكرنك»، وأصبحنا نخاف من الضابط كمال الشناوى «خالد صفوان» الذى يعذب الشاب البرىء، ويأمر باغتصاب سعاد حسنى، ونرى من قسوته ما تقشعر له الأبدان، فنكره البوليس السياسى ونلعن هذا الضابط، وقد لا يصدقنى أحد عندما أقول لكم إننا كرهنا كمال الشناوى نفسه، ثم ندخل إلى فيلم «إحنا بتوع الأتوبيس» لنكره ضابط المخابرات فى العهد الناصرى الذى أدى دوره سعيد عبدالغنى، بل كل ضباط المخابرات.
ولكن تعود الدفة إلى مسارها المعتاد عندما نشاهد مسلسل «دموع فى عيون وقحة»، فالأحداث فى هذا المسلسل تدور فى فترة حكم عبدالناصر، وضابط المخابرات «صلاح قابيل» يستطيع تجنيد المواطن المصرى الشريف جمعة الشوان ليعمل جاسوسًا ضد إسرائيل، وصلاح قابيل هو صاحب الوجه المريح والأداء السلس، وهو من أحسن من أدى مثل تلك الأدوار، ويبرع عادل إمام فى أداء شخصية الشوان، ونسترد ثقتنا مرة أخرى فى ضباط المخابرات، وتزداد ثقتنا مع مسلسل «رأفت الهجان» والعبقرى الذى لا يتكرر الضابط محسن ممتاز، الذى قام بدوره المبدع يوسف شعبان، ومعه فريق من الضباط كانوا أبطالًا فوق العادة، لنعود مرة أخرى نتيه فخرًا بضابط المخابرات، ولكن تحدث عدة تغيرات يجب أن نلمحها، والتغيرات تحدث بشكل مطرد، لم يلحظها الواحد منا وقت حدوثها، حتى الذين شاركوا فيها لا يعلمون شيئًا عن مآلاتها، فقد كان كل واحد منا عبارة عن بيدق فى رقعة شطرنج، وحينما تظن أنك كنت تُحرك نفسك فأرجوك أن تراجع نفسك، فأنت تحركت وفقًا للمسار الذى تم رسمه لك ودفعك إليه دفعًا، أنت ترى اللحظة الآنية، ولكنك لم تر اللحظة الآتية، ستظن أنك ثورى ترغب فى القضاء على النظام الفاسد، ولكن انتظر فقد تم تجهيزك على مهل من خلال وسائل كثيرة، كانت الدراما من ضمنها، إذ لا أزعم أنها كانت الوسيلة الوحيدة.
ففى نفس العام الذى شاهدنا فيه «رأفت الهجان» تدور بكرة السينما ليظهر لنا على الشاشة فيلم «زوجة رجل مهم» ولأن أحمد زكى الذى قام بدور ضابط أمن الدولة فى هذا الفيلم، هو ممثل من أفضل الفنانين عبر تاريخنا الفنى، لذلك اقتنعنا تمام الاقتناع من خلال أدائه بأن ضابط أمن الدولة هو إنسان سادى مهووس، يسعى إلى إيذاء الناس، ليس عنده ضمير، فتم تصدير صورة ضابط أمن الدولة فى عقولنا على أنه مثل زعماء عصابات المافيا.
وتدور بكرة السينما لنرى عام ٢٠٠٤ فيلم «تيتو»، حيث نتعاطف فيه مع المجرم تيتو «أحمد السقا» الذى دفعته الظروف للإجرام، ثم إذا بالضابط «خالد صالح» يستغله ليرتكب جرائم على حسابه، ويظهر هذا الضابط وكأنه يدير مافيا من الشرطة، وفى نفس العام نرى فيلم «أبوعلى» وهو فيلم لطيف كتب قصته بلال فضل الهارب حاليًا فى أمريكا، وأدى أبطاله أدوارهم ببراعة، ونجح فيه كريم عبدالعزيز فى أداء دور المواطن المصرى الذى اتهمه الضابط ظلمًا ولفق له قضية، والضابط الفاسد هنا هو الممثل القدير «خالد الصاوى» ثم يتحرك الزمن ليأتى عام ٢٠٠٧ لنرى فيلم «هى فوضى» وهو فيلم يدور حول أمين شرطة فاسد، وقد أدى دوره ببراعة الراحل خالد صالح، والفيلم إنتاج فرنسى مصرى مشترك، ونرى فى هذا الفيلم منظومة كاملة من فساد الشرطة، سواء من حيث تزوير الانتخابات، أو تلفيق الاتهامات والإتاوات، وغير ذلك، وفى نفس العام نرى فيلم «الجزيرة» الذى تدور قصته حول أن الشرطة تتعاون مع كبار تجار المخدرات لكى يمارسوا تجارتهم فى مقابل أن يساعدهم هؤلاء التجار فى أمور أخرى، إلى أن يستفحل الأمر فتضيق عليهم النطاق وتقبض على المجرم الكبير الذى أدى دوره أحمد السقا، وفى عام ٢٠١٠ نشاهد مسلسل «الجماعة» الذى كان جزء كبير من حلقاته عبارة عن محاكمة درامية للشرطة المصرية.
كانت هذه هى الخريطة التى تم رسمها ببراعة فى أذهان الناس، وقد تضافرت مع وسائل أخرى كثيرة، أكان الناس لعبة بين أيديهم يحركونهم كما يريدون.. أم أنهم استخدموا فنون توجيه العقل الجمعى فيما يعرف بالبرمجة الذهنية؟ أكانت حركات وجمعيات ودراما تستغل معاناة الجماهير لتحريكهم ثم لتثويرهم من أجل التخلص من عجائز تيبسوا على كراسى الحكم ليُجلسوا على كرسى الحكم أصحاب اللحى الذين لا تهمهم الأوطان، ولا ينتمون للأرض؟