رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أحمد زايد: نصر حامد أبوزيد عمَّق إيمانى بالله وحمانى من الإلحاد

الدكتور أحمد زايد،
الدكتور أحمد زايد، أستاذ علم الاجتماع السياسى

ابتعد عن الله خلال فترة قراءاته الشبابية فى علم الاجتماع والفلسفة، لكن مناقشاته مع زميل دفعته الدراسية بكلية الآداب جامعة القاهرة، المفكر الراحل نصر حامد أبوزيد، كانت سببًا فى تعميق إيمانه بالله، وحمايته من الوصول إلى مرحلة «الإلحاد».
يرفض بشكل واضح سلوك بعض الدعاة ممن يفرضون نوعًا من «الكهنوت» و«الوصاية» على الناس، ويعتبر تصرفهم هذا «تجرؤًا على عقل الله»، كما أنه يرى نفسه أقرب إلى الصوفية بمعناها القديم عند ابن عربى والحلاج وجلال الدين الرومى، بعيدًا عما فيها حاليًا من «دروشة». إنه الدكتور أحمد زايد، أستاذ علم الاجتماع السياسى، العميد الأسبق لكلية الآداب جامعة القاهرة، صاحب مؤلفات «صوت الإمام.. الخطاب الدينى من السياق إلى التلقى»، و«الهوية الوطنية»، وغيرهما من المؤلفات والأوراق البحثية فى تخصص علم الاجتماع السياسى، الذى يكشف، فى الحوار التالى مع «الدستور» عن مفهومه عن الله والإيمان، ويحكى عن نشأته وتأثيرها فى تلك التصورات.
■ كيف ترى الله؟ وما الذى يمثله لك؟
- الله بالنسبة لى طاقة منتشرة فى ربوع الدنيا بما فيها نحن كبشر، وهذه الطاقة مخترقة لأجسادنا وذواتنا وحياتنا، ولذلك إذا كان الله معروفًا بصفات الرحمة والإنسانية والحب، تجد أن هذه الصفات مخترقة الكون كله، وكذلك صفات الغضب والشدة والعقاب.
وعندما كنت أؤدى فريضة الصلاة فى المسجد أندهش عندما أرى شخصًا يمنع المرور من أمام أحد المصلين، لاعتقاده بأن الله موجود فى هذا الحيز الذى يصلى فيه، رغم أن العلاقة بين الإنسان والله «لا متناهية»، لا زمان لها ولا مكان، وهى مخترقة فى كل شىء، وموجودة وتمدنا بطاقة نستطيع من خلال علاقتنا بها أن نكتشف أنفسنا وذواتنا بشكل أفضل، ومن ثم استغلالها أفضل استغلال.
■ ما أول تصور تكوَّن عندك عن الله؟
- دعنى أقول لك إنى مَرَقت عن الله، خاصة خلال فترة القراءات الشبابية فى علم الاجتماع والفلسفة، بعد تخرجى فى الجامعة، حيث ظللت ٤ سنوات أفكر فى قضية الوجود والله، وتحولت هذه القضية عندى من توافق ميكانيكى آلى مع ما هو موجود من طقوس إلى تفكير عقلانى فى مسألة الوجود ومسألة الخلق ومسألة الله، إلا أنها تساؤلات وجودية لم تصل إلى مرحلة الإلحاد.
ظل هذا القلق الوجودى يراودنى حتى وقعت مناقشة بينى وبين الدكتور الراحل نصر حامد أبوزيد، رحمه الله، فعلى الرغم من اتهامهم إياه بـ«الكفر»، فإننى أؤكد أنه هو من عمّق إيمانى فى تلك الفترة، حيث كنا نُدرس فى جامعة القاهرة فرع الخرطوم، وكنا نسكن أنا وهو واثنان من أعضاء هيئة التدريس فى شقة واحدة، حيث قلت له: «عايزك تقول لى يا نصر شيئًا يقنعنى بأن الله موجود، وأن القرآن منزل من عند الله».
قال لى: «شوف لغة النبى هى لغة الحديث، ونحن نعرفه بلغة الحديث، أما لغة القرآن من حيث التركيب وصياغة المفردات والعبارة والنظم فليست لغة محمد فهى لغة مختلفة، هى لغة الوحى المُنزل، فنحن أمام لغتين، كل لغة لها خصائصها».
منذ أن سمعت رد نصر حامد أبوزيد بدأت التساؤلات التى تقلقنى تخمد بإجابته المنطقية، ومع مرور السنوات بدأت أفكر فى طبيعة الإيمان الذى نتمناه، وأتأمل آيات القرآن وأفسرها بطريقتى بعيدًا عن كتب التفسير، بحيث تجعلنا نأخذ منها الفهم الإيمانى الأعم والأشمل، وهو الإيمان بمعنى «صناعة الدنيا».
وفى هذا الإطار أؤكد أن كثيرًا من النصوص التى يرددها بعض الأشخاص، المفترض أنهم يؤدون دور «الوسيط» بين الله والناس، هى عبارة عن فرض نوع من الكهنوت والوصاية، وهى أمور لا علاقة لها بالدين، فيتصرفون وكأنهم يمتلكون عقل الله، فيقولون: «ليه ربنا قال كده ومقالش كده؟!»، وهم يتجرءون على عقل الله على الرغم من أن أدوارهم الحقيقية تتمثل فى تأويل بعض المعانى الجيدة.
■ من أول شخص رأيت الله من خلاله؟
- والدى «الشيخ عبدالله» تتجسد فيه صورة الله الحقيقية. عندما كبرت وتركت القرية للدراسة والعمل فى الجامعة رأيت الكثير من الناس، منهم أساتذة جامعة ومفكرون، وغير ذلك من صنوف الناس، وكنت وقتها أنبهر بهؤلاء، لكن كلما تقدم بى العمر رأيت أن والدى أفضل مِن كل مَن رأيت، لأنه كان متسقًا مع فكرة النزاهة والسماحة والتربية.
أما هؤلاء فقد رأيتهم يتحدثون عن زملائهم بسوء ويتصارعون مع بعضهم بعضًا من أجل مكاسب صغيرة، ويقومون بالنميمة على بعضهم بعضًا، وهو ما لم أره فى والدى، فلم أره غاضبًا أو يتصارع على أمور بسيطة، أو يبث أى شكل من أشكال الكراهية أو يغتاب أحدًا، كان صادقًا فى الحديث ومنضبطًا فى أداء الفرائض الدينية، إلى جانب كفاحه فى الحياة من أجل تعليمى وتوفير مستوى من المعيشة الكريمة للأسرة، لذا فإننى رأيت الله فى سلوكيات والدى.
■ متى بدأت معرفتك الدينية؟
- منذ مرحلة الطفولة، وكان من ضمن الأشياء الجميلة التى أسهمت فى ذلك كتّاب قريتى، الذى ظللت به لمدة سنة قبل ذهابى للمدرسة، ولم تستمر دراستى فيه لأنى كنت قليل الحفظ.
وكان الكتّاب فى القرية نموذجًا لفكرة «التعددية»، حيث كان يديره اثنان، شيخ شاب يدعى الشيخ «فهر»، ووالده، وكان يأتى لتدريس الحساب مدرس من قرية مجاورة يدعى «عزيز»، ومن هنا صارت المعرفة الدينية مع المعرفة العلمية.
■ هل كان الدين يشكل عائقًا فى حياتك أم قوة دفع؟
- نشأت فى أسرة متدينة فى المنيا، وكان أهل القرية يطلقون على والدى «الشيخ عبدالله»، وكان يرتدى العمامة والزى الأزهرى على الرغم من أنه لم يكن أزهريًا.
كان يعمل تاجرًا من كبار تجار القطن، لكنه كان مؤهلًا للدراسة فى الأزهر، وأعده والده لذلك، وحفظ بعض أجزاء من القرآن الكريم، لكن بعض الظروف العائلية حالت بينه وبين الدراسة فى الأزهر الشريف، فظل فى حياته مهتمًا بالدين وقراءة القرآن الكريم والأحاديث، بل والأشعار.
وبصفة عامة، كان تدين أسرتى تدينًا مصريًا وسطيًا سمحًا، وليس التدين الذى تشوبه غلظة، فمثلًا عندما كان والدى يرانى مبتعدًا عن أداء الصلاة كان يقول لى عند اجتماعنا فى أوقات الغداء: «أنت الآن لا تصلى وقد أستطيع الآن أن أحرمك من الغداء معنا، حتى تنتظم فى أداء الصلاة، لكن سأسمح لك هذه المرة أن تجلس معنا».
كما أن وقتها لم تكن الصلاة فى المساجد، بل كان الناس يصلون فى مصلية على الترعة فى قريتنا، وقمت بإمامة الصلاة بهم فى إحدى المرات.
فالنشأة كان واضحًا فيها حضور الدين، لكن عندما قرأت فى العلوم الاجتماعية طورت مفهومى للإيمان، ولم يعد الإيمان عندى مجرد «طقوس» بقدر ما هو أن أصنع حياة فيها قدر من المشقة فى العمل، وتوزيع القيم الفاضلة والتمسك بها، بحيث تترك مسارًا نورانيًا فى الحياة.
فالنفس البشرية عندى عبارة عن جانبين، الجانب المهارى العملى، والجانب الإنسانى القيمى، وعلى الإنسان أن يكون على المستوى العملى المهارى منجزًا، ويستخدم أفضل ما فى القيم، لذلك عندما تسأل فى الإسلام: «ما الإيمان؟» يقال: «هو ما وقر فى القلب وصدقه العمل».
وأرى فى ضوء ذلك أننا فى حاجة لتعريف إجرائى لـ«الإيمان»، وهو أن الإيمان الحق جزء كبير منه هو صناعة الدنيا، فأن تكون إنسانًا ليس بكثرة الصلاة أو الصوم أو الذكر، لأنها أمور مفترضة ولا تجب مناقشتها، بل ينبغى أن يرتبط ذلك بالعمل، بمعنى أن تنطلق الصفات المهارية، فيتحول الإيمان من داخلك إلى طاقة نور تنير ما حولك بقيمك، فتصنع فى الحياة طريقًا وعلامة، يؤدى بالمجتمع إلى التقدم والحضارة وليس «الانتكاس»، لذلك أنا ضد فكرة «الإيمان الشكلى».
■ مَن هم شيوخك المفضلون؟
- من المشايخ والأئمة الحاليين شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، فهو رجل بسيط يذكرنى بوالدى، على الرغم من أنه من سنى، وأرى دائمًا أنه غير متكلف.
ومن بين المشايخ الذين كنت أرى أنهم من «المجددين»، شيخ الأزهر الراحل محمد سيد طنطاوى، وكنت التقيه بشكل مستمر عندما كنت عميدًا لكلية الآداب، وعندما توليت رئاسة معهد إعداد القادة فى حلوان، وكنت أستمع إليه أكثر من مرة فى بعض الموضوعات الدينية والدنيوية الشائكة، وكان دائمًا ما يقدم ردودًا مجددة.
■ ما مساحة التصوف فى حياتك؟ وكيف ترى انتشار جماعات التصوف فى العالم؟
- أنا أقرب إلى الصوفية بمعناها القديم، عند ابن عربى والحلاج وجلال الدين الرومى، الذى يعتمد على فكرة «التجلى» وتأمل العلاقة بالله، كما لو كان الله حل فى العالم، وهو فكر راق جدًا، وليس بالمعنى الموجود فى الطرق الصوفية المنتشرة فى القرى حاليًا.
ولى خبرة مع الطرق الصوفية فى قريتى، ومنها طريقة تسمى «البيومية»، لها حلقات ذكر، وفى إحدى المرات طردنى شيخ الطريقة من الحلقة، وهى خبرة سيئة، وأنا لا أحب الصوفية بمعناها «الدرويشى»، كما أن بعضها تشوبه «انحرافات خفية».
■ ما تفسيرك لظاهرة تردد الناس على أضرحة أولياء الله فى مصر؟
- أرى أنها طالما تحقق راحة نفسية وتؤدى وظيفة فى الحياة لا بأس، أنا لا أحرم زيارة الناس لأضرحة أولياء الله الصالحين، كما أن المصريين لا يعبدونهم، بل تجد مساحة من الحرية والفكاك من ضيق الحياة وضغوطها، وهى مثلها مثل الموالد والمهرجانات الشعبية حول العالم، وهى تشبه زيارة الأجانب للمعابد والكنائس.
وليس لدىَّ أدنى مشكلة، لكن المشكلة بالنسبة لى تكمن فى زيارة قبور الأموات، حيث لا أشعر فيها بأى علاقة روحانية، فبدلًا من زيارة قبر والدى من باب أولى أن أحقق ما كان يتمناه من نجاح.