رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الرسول فى مصر «12»

محمد الباز يكتب: السحار.. رد الاعتبار لصاحب «محمد رسول الله والذين معه»

محمد الباز
محمد الباز

رغم كل ما قدّمه للحياة الفكرية والثقافية والدينية فى عالمنا العربى والإسلامي، فإن الكاتب الكبير عبدالحميد جودة السحار لم يحصل على ما يستحقه من تكريم، ولم ننزله المنزلة التى تناسب عطاءه الذى لم ينقطع منذ بدأ الكتابة فى العام ١٩٣٧، وهو فى الرابعة والعشرين من عمره، وحتى رحيله فى العام ١٩٧٤.
البدايات كانت قصصية، وإذا عدت إلى أعداد مجلتى «الرسالة» التى كان يصدرها أحمد حسن الزيات، و«الثقافة» التى كان يصدرها أحمد أمين، ستجد له قصصًا منشورة فى الأربعينيات، تمثل محاولاته الأولى فى العمل الأدبى، ثم كان التحوّل الكبير فى حياته عندما اهتم بكتابة القصص التاريخية، ويبدو أنه كان يسير على خطى صديقه نجيب محفوظ فى الاهتمام بتاريخ مصر الفرعونى، فكتب أول قصة له «أحمس بطل الاستقلال» وكان ذلك فى العام ١٩٤٣.
وهب السحار نفسه بعد ذلك للكتابات الإسلامية، التى توَّجها بملحمته «محمد رسول الله والذين معه»، التى يروى فيها سيرة النبى، صلى الله عليه وسلم، بطريقة أدبية بسيطة رغم عمقها، ودقيقة بفضل البحث الذى يبدو من المنتج النهائى، لكن المفارقة أن هذه الملحمة ورغم أنها تحظى بانتشار واسع جدًا فى العالم الإسلامى كله، فإنها ليست شهيرة بما يكفى.
المفارقة الأكبر فى حياة عبدالحميد جودة السحار أنه بالفعل صاحب أعمال مهمة جدًا، لكن نادرًا ما يعرف أحد أنها من إنتاجه.
تعرف مثلًا فيلم «أم العروسة»، الفيلم الذى يتعامل معه البعض على أنه واحد من أهم أفلام السينما العربية، السحار هو صاحب قصة الفيلم، وهو أيضًا صاحب قصة فيلم «الحفيد»، الذى نتعامل معه طول الوقت على أنه الجزء الثانى من فيلم «أم العروسة».
وتعرف أيضًا فيلم «مراتى مدير عام».. الفيلم الذى يمثل نقلة هائلة فى الحياة الاجتماعية المصرية، والذى لعب بطولته صلاح ذوالفقار وشادية، هو أيضًا مأخوذ عن واحدة من قصصه.
شارك عبدالحميد جودة السحار المخرج الكبير صلاح أبوسيف فى كتابة سيناريو وحوار فيلم «فجر الإسلام»، ومن بين ما تردد عن هذا الفيلم أنه أثناء عرضه كان يقال إن من يشاهده ينال ثواب عمرة، فالفيلم الذى ينتصر للنبى، صلى الله عليه وسلم، نظر إليه من تابعوه وكأنه من بين الأعمال التى يتم التقرب إلى الله بها.
من بين ما قدّمه السحار أيضًا مشاركته توفيق الحكيم وعبدالرحمن الشرقاوى فى كتابة فيلم «الرسالة» الذى أخرجه المخرج العالمى مصطفى العقاد، وهو الفيلم الذى لا يزال حتى الآن أهم عمل درامى سجل حياة النبى، صلى الله عليه وسلم، سينمائيًا، ولم يستطع أى عمل درامى آخر أن يتجاوزه.
يمكن أن أقدم لك أمثلة كثيرة من أعمال السحار، ومع كل عمل ستتأكد من أنه صاحب أعمال عظيمة، لكنه لم يحظ بالشهرة التى تتناسب وقيمة وتأثير هذه الأعمال.
من الصعب أن نفصل فى هذه الصيغة التى يمثلها عبدالحميد جودة السحار، فهى معقدة ومتشعبة، وتتداخل فيها العوامل السياسية بالنفسية، وأعتقد أن الكلام الصريح فيها من بين ما يجرح ويكشف أكثر ما ينبغى فى حياتنا الأدبية والثقافية.
عندما نتأمل صورة السحار الكاملة، سنعرف أنه يمكننا أن نعتبره واحدًا ممن وهبتهم الحياة القدرة الفائقة على العمل، لكنها حرمته من الموهبة اللامعة، التى تنفجر فى وجوه متابعيه، فتجبرهم على أن يتابعوا كل ما يقدمه لهم حتى ولو كان بلا قيمة على الإطلاق.
كان عبدالحميد جودة السحار صديقًا لنجيب محفوظ، وجرّب الكتابة فى الموضوعات التى كتب فيها نجيب، سواء تلك التى تتماس مع تاريخ مصر، أو تلك التى تدور فى الحارة المصرية مثل «الشارع الجديد» و«جسر الشيطان» و«همزات الشياطين»، لكن عندما تقارن بين المكانة التى احتلها نجيب محفوظ فى حياتنا الأدبية وتلك التى يقف عندها السحار، ستجد الفرق كبيرًا جدًا ومذهلًا أيضًا.
عند كثير من المثقفين والأدباء تأتى القيمة التى يمثلها عبدالحميد جودة السحار من أنه أسهم فى إنشاء «لجنة النشر للجامعيين» التى تولت نشر أعمال الأدباء الشباب، وفى مقدمتهم نجيب محفوظ، وأعتقد أن هذه اللجنة ليس لها فضل فقط على كثير من الأدباء، ولكن على الأدب المصرى كله، فلولاها لما استطاع كثير منهم نشر أعماله الأدبية.
يعترف نجيب محفوظ بذلك.
فى كتاب رجاء النقاش «صفحات من مذكرات نجيب محفوظ» يقول نجيب: أول جائزة أدبية حصلت عليها فى حياتى هى جائزة «قوت القلوب» الدمرداشية للرواية، فهذه السيدة كانت محبة للأدب، ونظمت مسابقة فى فن الرواية عام ١٩٤٠، كانت جائزتها أربعين جنيهًا مصريًا، وتشكلت لجنة تحكيم المسابقة من بعض أعضاء مجمع اللغة العربية، وأذكر منهم: طه حسين وأحمد أمين وفريد أبوحديد، تقدم للمسابقة عدد كبير من الأدباء الشبان، وفزت أنا بالجائزة الأولى مناصفة مع على أحمد باكثير عن روايته «سلامة» بينما فزت عن روايتى «رادوبيس»، وحصلت على نصف الجائزة الأولى وهو مبلغ عشرين جنيهًا مصريًا، وقد كان هذا المبلغ فى ذلك الوقت عظيمًا، يقارب أعراض الثراء الآن، وقد يكون سكان العباسية كلهم علموا بالأمر.
يأخذنا نجيب محفوظ فى طريقه ليقترب من عبدالحميد جودة السحار.
يقول: لم يكن مبلغ الجنيهات العشرين هو المهم، بل كان الأهم منه أن الجائزة أسهمت فى رفع روحى المعنوية إلى حد كبير، ففى تلك الفترة تعرضت للفشل وأنا أحاول نشر رواياتى فى الصحف غير المعروفة، فكنت أكتب وأضع ما أكتبه فى الدرج انتظارًا للفرج، وبعد جائزة «قوت القلوب» تشجعت وتقدمت لمسابقة مجمع اللغة العربية بروايتى «كفاح طيبة»، وحققت نجاحًا هنا أيضًا، وكنت بين الخمسة الفائزين بجوائز، وهم: عادل كامل، على أحمد باكثير، يوسف جوهر، وأنا، وخامس لا أذكره، وكانت هذه الجائزة سببًا فى لقائى وتعارفى على هذه المجموعة من الأصدقاء، كانت تلك الجوائز فاتحة خير، لأنه بناءً عليها قرر عبدالحميد جودة السحار إنشاء «لجنة النشر للجامعيين»، حيث وجد أمامه مجموعة من الأدباء الشبان الموهوبين بشهادة أساتذة كبار هم أعضاء لجنة التحكيم، وأنه يمكنه أن ينشر أعمالهم الفائزة ويضمن توزيعها، خاصة أن الجوائز الأدبية فى ذلك الوقت كانت تتمتع بالاحترام والثقة فى جديتها، وكلفنى السحار بالاتصال بالفائزين والتفاوض معهم لنشر أعمالهم من خلال اللجنة ووافقوا، وكان ذلك عام ١٩٤٣.
بعد «لجنة النشر للجامعيين» أسس عبدالحميد جودة السحار مع شقيقه سعيد «مكتبة مصر» التى واصلت نشر أعمال كبار الأدباء، ورغم أيادى عائلة السحار البيضاء على الأدب المصرى، إلا أنهم واجهوا اتهامات كثيرة من الأدباء، أقلها ما كان يتردد حول الثروة الهائلة التى جمعتها العائلة، حيث كان يرى كثير من الكتّاب أن هذه الثروة من فائض أعمالهم ومجهودهم.
رسوخ عبدالحميد جودة السحار فى النشر ربما كان سببًا فى عدم رسوخ قدمه كأديب، ولذلك لن تجد اهتمامًا نقديًا يليق بمنجزه، اللهم إلا بعض دراسات وكتب منها ما كتبه مأمون غريب «السحار والفكر الإسلامى»، ومحمد جبريل «السحار.. رحلة إلى السيرة النبوية»، وصفوت يوسف زيد «التيار الإسلامى فى كتب عبدالحميد جودة السحار»، وعبدالمنعم صبحى «السحار مفكرًا وأديبًا سينمائيًا».
عندما تتأمل ما كُتب عن السحار، ستجد أغلبه يقترب من كتاباته الإسلامية، حتى الدراسة التى أعدها الكاتب والناقد الكبير محمد جبريل كانت عن جهده فى كتابة السيرة النبوية والرحلة التى وصلت به إليها.
ومن هنا يمكن أن نمسك بالطريق الصحيح الذى يربطنا بالسحار هنا.
فى أكتوبر ١٩٦٥ بدأ عبدالحميد جودة السحار فى نشر موسوعته «محمد والذين معه» وهى الموسوعة التى تتكون من عشرين جزءًا وما يقرب من ستة آلاف صفحة، وانتهى منها فى العام ١٩٧٠.
البداية كانت بـ«إبراهيم أبوالأنبياء» فى أكتوبر ١٩٦٥، واختتمها بـ«وفاة الرسول» فى ديسمبر ١٩٧٠، وبينهما توالت السلسلة «هاجر المصرية أم العرب، بنو إسماعيل، العدنانيون، قريش، مولد الرسول، اليتيم، خديجة بنت خويلد، دعوة إبراهيم، عام الحزن، الهجرة، غزوة بدر، غزوة أحد، غزوة الخندق، صلح الحديبية، فتح مكة، غزوة تبوك، عام الوفود، حجة الوداع».
كانت هذه الملحمة ختام مسيرة طويلة قضاها السحار فى الاهتمام بالإسلاميات، فله كتب عديدة منها «أبوذر الغفارى» و«بلال مؤذن الرسول» و«سعد بن أبى وقاص» و«أبناء أبى بكر الصديق».
ولم تكن كل هذه الكتابات بمحض الصدفة، فقد كانت له فلسفة واضحة قوامها أن تطوير الثقافة العربية مرهون بقدرتنا على محاورة تراثنا والاستضاءة به.
من بين ما قاله: أحسست أن التراث الإسلامى والثقافة العربية يمثلان شيئًا مهمًا وجوهريًا داخل حلقات التطور الفكرى لمصر عبر العصور، إنه لا يمكن تطوير الأدب وتطوير الثقافة المصرية دون العودة إلى استلهام التراث، وتحقيقه على المستويين الفكرى والفنى، لذلك كتب العديد من الأعمال القصصية بعد محاولة هضم هذه الألوان من الثقافة الإنسانية بشكل عام.
عندما نفتح كتاب محمد جبريل «السحار.. رحلة إلى السيرة النبوية» سنجد الناقد الكبير يمسك بخيط مهم جدًا فى قصة السحار مع النبى، صلى الله عليه وسلم، فهو يرى أنه أصدر العديد من المجموعات القصصية والروايات التى تغطى جوانب مختلفة فى حياتنا الاجتماعية، وتسلط الضوء على سلبياتها من زوايا أخلاقية، لكن العناية بالتاريخ الإسلامى كانت فى الحقيقة شاغل السحار منذ بدايات حياته الأدبية سعيًا لكتابة أهم أعماله وأخطرها، وهو السيرة النبوية المعنونة بـ«محمد رسول الله والذين معه»، وفيها يتناول سيرة الأنبياء منذ آدم أبى البشر عبورًا بإبراهيم أبى الأنبياء، حتى وفاة الرسول، صلى الله عليه وسلم.
على كثرة ما كتب السحار وأبدع، إلا أنه يتعامل مع «محمد رسول الله والذين معه» على أنه الإنجاز الأهم فى حياته، وحتى يستكمل عمله ذلك قرأ وبحث وقارن وأثبت آراء واستبعد أخرى، واستأنس بآراء ورفض أخرى تمامًا، يحركه إلى ذلك كله قناعته القلبية قبل العقلية.. وإن كان العقل قد لعب دورًا كبيرًا فى كتابة هذه الملحمة.
السؤال الذى لا بد أنه يقتحمك الآن هو: إذا كان السحار قرر أن يكتب سيرة النبى، صلى الله عليه وسلم، فلماذا بدأ الكتابة بآدم عليه السلام؟
الإجابة لن تأتيك على جناح التحليل أو التفسير، ولكنها من لسان السحار نفسه، سأله محمد جبريل السؤال نفسه، وكانت إجابته نصًا: الإسلام- منذ بدء الخليقة- هو دين الله، دعا إليه الرسل والأنبياء، وهو ما يؤيده قول الله تعالى: «إن الدين عند الله الإسلام» وقوله تعالى: «ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه».
ما الذى يمكن أن نفهمه من كلام السحار المكثف، أغلب الظن أنه كان يتعامل مع الأنبياء جميعًا على أنهم أصحاب رسالة واحدة، لا يمكن أن نفصل بينهم أو نمايز، فالحقيقة واحدة حتى لو تعددت الوجوه، ولذلك فالذين مع محمد رسول الإسلام ليسوا صحابته، ولكنهم الأنبياء الذين سبقوه، وجاء هو ليتمم ما فعلوه.
يميل محمد جبريل إلى أن الأثر الوحيد الذى سيبقى من عبدالحميد جودة السحار هو ملحمته عن سيرة النبى، صلى الله عليه وسلم، وهى الملحمة التى منحته اهتمامًا طاغيًا فى حياته، ويكفى أن تعرف أن السحار حين سافر إلى الشرق الأقصى فى بعثة تجارية أدهشه أنه معروف جيدًا فى إندونيسيا، وقد أشارت الصحف إلى وصول الكاتب الإسلامى الكبير، وتردد عليه فى الفندق مئات العلماء والقراء العاديين، بادلوا دهشته بدهشة مماثلة، فقد تصوروا أنهم سيقابلون شيخًا معممًا، فإذا به شاب فى أوائل الأربعينيات، ووقتها كان قد انتهى من إسلامياته الأولى، فما باله لو أنه كان ذهب إليهم بعد الانتهاء من كتابته سيرة النبى، صلى الله عليه وسلم.
السؤال الذى يظل محيرًا لى وربما لك أيضًا هو: إذا كان ما كتبه عبدالحميد جودة السحار عن سيرة النبى له كل هذه الأهمية، فلماذا لا يحتل ما يستحقه من تقدير؟
هنا يمكننا أن نتأمل ما جرى، فمن بين ما يشتهر عن ملحمة السحار، أنه عندما فكر فى كتابة سيرة النبى، صلى الله عليه وسلم، كان دافعه الأساسى هو أن يعمل بمنهجية التفسير الدينى للتاريخ، فى مواجهة منهجية التفسير المادى للتاريخ، وهى المنهجية التى عمل بها السابقون له أمثال محمد حسين هيكل وطه حسين والعقاد.
منهجية السحار دفعته إلى أن يعود إلى البدايات الأولى للوحى الإلهى للبشر المصطفين للرسالات السماوية، وما صاحبها من مذاهب أرضية ودينية وحضارات وممالك وإمبراطوريات ووثنيات وصراعات أخلاقية، وبعد أن استعرض ذلك وهضمه تمامًا، راح يثبت أن الرسالة المحمدية تؤكد سمو ما سبقها من التعاليم والقيم العالية التى أرسلتها الرسالات السماوية، وأضافت إليها.
يظهر ذلك من قناعة السحار التى أثبتها كثيرًا وهى أن الأنبياء والرسل وإن اختلفت شرائع الأقوام الذين أرسلوا إليهم إلا أن دينهم واحد، وإلههم واحد، وقد جاءوا كسلسلة متعددة الحلقات بدأت بإبراهيم، عليه السلام، وختمت بالنبى محمد، صلى الله عليه وسلم.
أعتقد أن هذه المنهجية ذاتها هى التى حجبت قيمة ما أنتجه السحار، فسيرة النبى التى كتبها لا تخرج فى الغالب عن كونها عملًا وعظيًا، لا يمكننا التعامل معه على أنه عمل فكرى جاء فيه بجديد، السرد تقليدى والوقائع تقليدية، لا نجد أبدًا اشتباكًا ولو عابرًا بينه وبين ما فى كتب التراث من روايات.
مشكلة السحار الحقيقية أنه لعب فى المنطقة الرمادية، فلم يحتف العلمانيون بما كتبه، ولم يمنحه التراثيون وأبناء التيارات الإسلامية عنايتهم، فقد كتب ما يعتقد أنه صحيح، بعيدًا عن الاتجاهين، وهو الأمر الذى جعلهما يرفعان أيديهما عنه، فلم يعتبره كل فريق واحدًا منه.
قد أكون مبالغًا بعض الشىء فيما أذهب إليه الآن، لكننى أعتقد أن له ظلًا من الحقيقة.
السحار كان مفكرًا من طراز خاص، لا يحمل على كتفيه خبرة حياتية عريضة فقط، ولكنه كان يمتلك رؤية واضحة تشكل مواقفه وتحركاته فى الحياة والأدب أيضًا.
تعالوا نفتح كتاب محمد جبريل «السحار.. رحلة إلى السيرة النبوية» مرة أخرى، سيقابلنا سؤال من جبريل وجهه للسحار: هل تعبّر أعمالك عن فلسفة حياة متكاملة؟
وكان الرد: إننى دائمًا أحاول أن أصور لحظات الضعف البشرى، لكننى لا أترك الأضواء مسلطة على الإنسان عند سقوطه، بل أترك الأضواء مسلطة على لحظات الإفاقة، السقوط عبارة عن الواقع الصغير، إنما الندم والنظر إلى أعلى، إلى السمو، إلى الله، فهو الواقع الكبير، وأحاول أن أوضح دائمًا أننا لسنا وحدنا المسيطرين على مصائرنا.
هذه الفلسفة التى كان يعتنقها السحار فى الغالب جعلته غير مهتم إلى حد كبير بما يقال عنه، فقد كان يقول كلمته ويمضى، لكن ما رأيكم لو نزلت بكم إلى أرض الواقع، وأرجو ألا أكون مبالغًا هذه المرة فيما سأذهب إليه؟ 
عندما راجعت ما كتبه عبدالحميد جودة السحار من أعمال نقدية، وجدت أن معظمها نُشر عبر نافذة «مكتبة مصر» التى تملكها عائلة السحار، وأعتقد أن كثيرين من النقاد ترددوا فى الكتابة عن السحار حتى لا يتهموا بالتملق أو النفاق، فقد كان وعائلته أصحاب نفوذ فى عالم النشر، وهو النفوذ الذى ظلمه من حيث لا يدرى.
الآن لا يوجد ما يبرر حالة التجاهل النقدى لأعمال عبدالحميد جودة السحار، فقد مات منذ ما يزيد على ٤٦ عامًا، ولم يعد لـ«مكتبة مصر» نفوذها السابق فى عالم النشر، فلا أقل من أن نعمل على رد الاعتبار للسحار، صاحب ملحمة فى السيرة النبوية التى لم تلق الاهتمام الذى يليق بها، ولم نستفد بها بالقدر الذى نحتاجه.