رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الرسول فى مصر «11»

محمد الباز يكتب: دروس توفيق الحكيم فى الدفاع عن النبى محمد

محمد الباز
محمد الباز


تعرف توفيق الحكيم؟
ستسخر منى بالطبع، فمن منا لا يعرف الكاتب الذى عبر الأجيال بكتاباته وإبداعاته وريادته.
مؤكد أنك تعرفه، لكن ما أثق فيه أنك لا تعرفه جيدًا، أو لنكن أكثر دقة وصراحة مع بعضنا البعض، أنت لا تعرف وجهه الحقيقى.
ستقول لى إنه واحد من كتّابنا الكبار الذين بهرهم الغرب، فأصبح واحدًا من دعاة التغريب.
وستقول لى إنه رائد لأشكال أدبية مختلفة، وتحديدًا المسرح والرواية.
وستقول أيضًا إنه واحد ممن لهم شطحات دينية، أليس هو الذى كتب حوارًا مع الله ونشره فى الأهرام فى العام ١٩٨٣، ولما اعترض رجال الدين عدّل عنوانه، فأصبح حديثًا إلى الله، لكنه ظل على مضمونه، لم يتراجع عنه أو يعتذر.
وستقول أيضًا إنه واحد ممن لا نعرف عنهم تدينًا ولا التزامًا ولا حرصًا على الدين.
هنا سأقول لك: توقف عندك، لأن هناك وجهًا من وجوه توفيق الحكيم لا تعرف عنه شيئًا، ليس لأنه أخفاه عنا، ولكن لأن هناك من حاول طمس هذا الوجه وتشويهه وإهالة التراب عليه، ربما طمعًا فى الانفراد بالقرب من الله والحديث باسمه وكأنه وكيله على الأرض.
فى الثمانينيات جلس الصديق إبراهيم عبدالعزيز ليحاور توفيق الحكيم، سأله: من حيث كونك شاهد عصر، ماذا فى خاطرك الآن، ونحن نمر بمرحلة مهمة من مراحل تاريخنا المعاصر؟
يمكنك أن تتخيل أى إجابة، إلا الإجابة التى أثبتها توفيق الحكيم وأشار إليها.
قال الحكيم: الذى يجول فى خاطرنا جميعًا هو بناء الإنسان المصرى، وبناء الإنسان المصرى هذا ليس فى أن نخترع لعقولنا شروطًا أو مواقف معينة، يكفى أن نرجع إلى عصر الإسلام الأول، حينما جعل النبى، صلى الله عليه وسلم، من قريش هذه المجموعة الصغيرة الجاهلة نواة للأمة الإسلامية التى هى «خير أمة أُخرجت للناس» كما جاء فى القرآن الكريم.
إشارة الحكيم واضحة، فهو يريدنا أن نعود إلى الرسول، صلى الله عليه وسلم، مثبتًا له فضله الأعظم.
يقول عنه: نحن فى حاجة إلى أن نبحث ونحلل كيف تحوّل الرسول بمجتمع الجاهلية إلى مجتمع المدنية والحضارة من منطلق الإسلام الذى أصبح يشمل بنوره وبحضارته وبقوته المادية والروحية قطعة من الأرض تعتبر هى العالم فى شموله فى ذلك الوقت، بينما كانت أوروبا فى القرون الوسطى غارقة فى ظلمات الجهالة.
لا يزال توفيق الحكيم يفصل مشروع النبى.
يقول عن ذلك: حينما صنع الرسول من الأمة الجاهلة أمة متحضرة، لم يحقق هذا بين عشية وضحاها، ولكنه حققه بعد معارك طويلة وكفاح مرير، تعرض خلاله للقتل قبل الهجرة، وتعرض خلاله للهزيمة بعد أن استقر فى المدينة، ولكنه مع ذلك كان مصممًا على أن تنتصر مبادئ الإسلام، بعثه الله ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وإنك لتلمس هذا الإصرار منه صلى الله عليه وسلم فى قولته الرائعة حينما حاولت قريش إغراءه بالمال والمنصب والسيادة، لقد رفض كل هذا وقال «لو وضعوا الشمس فى يمينى والقمر فى يسارى على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه».
من حقك أن تطالبنى بالصمت، وتقول لى إن توفيق الحكيم قال هذا الكلام وهو على مقربة من قبره، ومن الطبيعى أن يعود ليعتصم بالدين، وليقف على باب الرسول، صلى الله عليه وسلم، يروج لمشروعه ويعتبره هو الأصلح للبشرية.
لن أوافقك على ما تقوله، سأرشدك إلى مقال قديم كتبه توفيق الحكيم فى مجلة «الرسالة» ونشر فى ١٥ أبريل ١٩٣٥، أى قبل كلامه لإبراهيم عبدالعزيز بما يقرب من خمسين عامًا.
المقال عنوانه «دفاع عن الإسلام».
يقول توفيق الحكيم: قرأت لتسع سنوات مضت قصة فولتير التمثيلية «محمد»، فخجلت أن يكون كاتبها معدودًا من أصحاب الفكر الحر، فقد سب النبى فيها سبًا فجًا قبيحًا عجيبًا له، وما أدركت له علة، لكن عجبى لم يطل، فقد رأيته يهديها إلى البابا «بنوا الرابع عشر» بهذه العبارات «فلتستغفر قداستك لعبد خاضع من أشد الناس إعجابًا بالفضيلة، إذا تجرأ فقدم إلى رئيس الديانة الحقيقية ما كتبه ضد مؤسس ديانة كاذبة بربرية، وإلى من غير وكيل رب السلام والحقيقة أستطيع أن أتوجه بنقدى قسوة نبى كاذب وأغلاطه؟ فلتأذن لى قداستك أن أضع عند قدميك الكتاب ومؤلفه، وأن أجرؤ على سؤالك الحماية والبركة، وإنى مع الإجلال العميق أجثو وأقبل قدميك القديستين».
يعلق توفيق الحكيم على ما عرضه من كلام فولتير الكاتب والفيلسوف الفرنسى عن النبى محمد، صلى الله عليه وسلم، بقوله: وعلمت فى ذلك الحين أن روسو كان يتناول بالنقد أعمال فولتير التمثيلية، فاطلعت على ما قال فى قصة محمد، علّنى أجد ما يرد الحق إلى نصابه، فلم أر هذا المفكر الحر أيضًا يدفع عن النبى ما ألصق به كذبًا، وكأن الأمر لا يعنيه، وكأن ما قيل فى النبى لا غبار عليه ولا حرج فيه، ولم يتعرض للقصة إلا من حيث هى أدب وفن، ولقد قرأت بعد ذلك رد البابا «بنوا» على فولتير، فألفيته ردًا رقيقًا كيسًا لا يشير بكلمة واحدة إلى الدين، وكله حديث فى الأدب، فعظم عجبى لأمر فولتير، وسألت نفسى طويلًا: أيستطيع عقل مثقف كعقل هذا الكاتب العظيم أن يعتقد ما يقول؟
يكشف الحكيم عن سر مهم فى حياته الفكرية، يقول: منذ ذلك اليوم- يشير هنا إلى العام ١٩٢٦- وأنا أحس أنى فجعت فى شىء عزيز لدىّ.. الإيمان بنزاهة الفكر الحر، وقد كنت أحيانًا ألتمس الأعذار لفولتير، وأزعم أنه قال ما قال لا عن مجاملة أو تملق، بل عن عقيدة وحسن طوية استنادًا إلى علم خاطئ بأخبار النبى، ولكن كتابه إلى البابا كان يتهمه اتهامًا صارخًا، ويدع مجالًا للشك فى دخيلة أمر، إنى قرأت لفولتير كتبًا أخرى تكشف عن آراء حرة حقًا فى مسائل الأديان، وتنم عن روح واسعة الآفاق تكره التعصب الذميم، فما باله عندما عرض لذكر محمد والإسلام كتب شيئًا هو التعصب بعينه، تعصب لدينه، ذهب إلى حد السجود وتقبيل الأقدام، لا لرب العزة والخلق، بل لبشر هو رئيس الكنيسة التى ما أرى أن فولتير كان ذات يوم من خدامها المخلصين.
فى هذا العام نفسه كتب توفيق الحكيم مسرحيته، التى صدرت فى طبعاتها الأولى باسم «محمد النبى البشر» ثم أصبحت فى طبعاتها التالية وحتى الآن باسم «محمد صلى الله عليه وسلم» فقط.
فى تقديمه لهذه المسرحية يقول توفيق الحكيم: المألوف فى كتب السيرة أن يكتبها الكاتب ساردًا باسطًا محللًا معقبًا مدافعًا مفندًا، غير أنى فكرت فى وضع هذا الكتاب قبل نشره عام ١٩٢٦، ألقيت على نفسى هذا السؤال: إلى أى مدى تستطيع تلك الطريقة المألوفة أن تبرز لنا صورة بعيدة إلى حد ما عن تدخل لكاتب، صورة ما حدث بالفعل، وما قيل بالفعل دون زيادة أو إضافة، توحى إلينا بما يقصده أو بما يرمى إليه؟
لا يجيب الحكيم عن هذه الأسئلة، التى كانت أقرب إلى الخواطر، ولذلك ستجده يسترسل فى خواطره، يقول: عندئذ خطر لى أن أضع السيرة على هذا النحو الغريب، فعكفت على الكتب المعتمدة والأحاديث الموثوق بها، واستخلصت منها ما حدث بالفعل وما قيل بالفعل، وحاولت على قدر الطاقة أن أضع كل ذلك فى موضعه كما وقع فى الأصل، وأن أجعل القارئ يتمثل كل ذلك، كأنه واقع أمام الحاضر، غير مبيح لأى فاصل، حتى الفاصل الزمنى، أن يقف حائلًا بين القارئ والحوادث، وغير مجيز لنفسى التدخل بأى تعقيب أو تعليق، تاركًا الوقائع التاريخية والأقوال الحقيقية ترسم بنفسها الصورة.
قدم توفيق الحكيم حياة النبى، صلى الله عليه وسلم، فى صورة مسرحية، ولأنه يعرف حساسية ما أقدم عليه، ستجده يقول: كل ما صنعت هو الصب والصياغة فى هذا الإطار الفنى البسيط، شأن الصائغ الحذر، الذى يريد أن يبرز الجوهرة النفيسة فى صفائها الخالص، فلا يخفيها بوشى متكلف، ولا يغرقها بنقش مصنوع، ولا يتدخل إلا بما لا بد منه، لتثبيت أطرافها فى إطار رقيق لا يكاد يرى.
يبرئ الحكيم ساحته تجاه هذه المهمة التاريخية الثقيلة فيقول فى ختام هذا التقديم: هذا ما أردت أن أفعل، فإذا اتضح للناس بعد هذا العمل أن الصورة عظيمة حقًا، فإنما العظمة فيها منبعثة من ذات واقعها هى، لا من دفاع كاتب متحمس أو تفنيد مؤلف متعصب.
كتب توفيق الحكيم هذه المسرحية لتظل بين دفتى كتاب، لم يفكر أبدًا أن يقدمها مخرج على خشبة المسرح، فالنبى، صلى الله عليه وسلم، واحد من شخصياتها يتحدث ويتحرك ويُحرك الأحداث، ومبلغ علمى أن أحدًا لم يفكر أبدًا فى تجسيد هذه المسرحية على المسرح، لأن الجميع يعرف أن هذا أمر يدخل فى باب المستحيل.
انفعل الحكيم إذن بما قاله فولتير عن النبى، فكتب مسرحيته «محمد»، ثم عاد بعد تسع سنوات، ليشير إلى ما حركه، وهى صيغة متكررة عند كبار مفكرينا، حدث هذا مع محمد حسين هيكل ومع العقاد، فقد كانت كتابتهما عن النبى ردة فعل لكتابات آخرين نالوا من النبى أو على الأقل لم ينصفوه.
يمكننا أن نعود إلى مقال الحكيم فى مجلة «الرسالة» مرة أخرى، لأن به قضية مهمة للغاية، يمكن أن نجملها فى سؤال واضح وهو: لماذا يدافع كاتب مثل توفيق الحكيم تربى على موائد الحضارة الغربية عن النبى محمد، صلى الله عليه وسلم؟
يجيبنا الحكيم عن سؤالنا، يقول: الدفاع عن نبينا وعقيدتنا دفاع عن حياتنا، وإن الكتابات التى توجه لهذا الغرض النبيل ينبغى أن يكون لها علينا حق المؤازرة والتعضيد، وإنى لست بناقد منقطع للنظر فى أعمال المؤلفين وتقدير قيم ما يكتبون.
يقترب توفيق الحكيم من كتاب «على هامش السيرة» لطه حسين، يقول عنه: فى هذا الكتاب دفاع عن الإسلام كما يستطيع الأدب أن يدافع، فهو لا يسلك الطريق المستقيم فى الكلام عن الإسلام، ولا يلجأ إلى التدليل العقلى، إنما يخلق جوًا شعريًا يحبب سيرة النبى وبيئته إلى النفس، وقد عمد طه حسين إلى الأساطير ينسج منها هذا الجو الأدبى الجميل، وتلك وسيلة الأدب والفن، ومن ذا يقرأ هذا الوصف لبلاد النبى ولا تأخذه روعته؟
يقتطع الحكيم من كتاب طه حسين هذا النص.
«هنالك دعت آمنة إليها من حضرها من نساء بنى هاشم، فأسرعن إليها وقضين معها ليلة لا كالليالى، أنكرن فيها كل شىء، وأعجبن فيها بكل شىء، أنكرن حتى أنفسهن، فقد رأين ما لم ير أحد، وسمعن ما لم يسمع أحد، وأحسسن ما لم يحس أحد، ولم تكن آمنة أقلهن إنكارًا وإكبارًا وإعجابًا».
ويستعين بهذا النص.
«كانت ترى وهى يقظة غير نائمة أن نورًا ينبعث منها فيملأ الأرض من حولها، ويزيل الحجب عن عينيها، وكانت تنظر فترى قصور بصرى فى أطراف الشام، وكانت تنظر فترى أعناق الإبل ترعى فى أقصى الصحراء، وكانت لا تتحدث إلى من حولها بما ترى مخافة أن ينكرن ما تقول، أو يظنن بها الظنون، وكانت هذه من صاحباتها لا تمد طرفها إلى شىء حتى تراه نورًا كله، لا ظلمة فيه وإنما هو مشرق مضىء، أو هو الإشراق الخالص، وكانت هذه الأخرى من صاحباتها تنظر، فإذا نجوم السماء تدنو من الأرض وتمد إليها أشعة قوية باهرة نقية ساحرة، وإنها لتدنو وتدنو حتى يخيل إلى الرائية أنها توشك أن تمسها وتقع عليها».
بعيدًا عن الصياغات الأدبية التى غرق فيها طه حسين، فإن توفيق الحكيم يشهد بأنه دافع عن الإسلام وإن كان لم يقصد ذلك، فالأدب الصرف والفن الصرف لا يقصدان أحيانًا إلى شىء، ولكن فى صوتيهما أبلغ الكلام.
لا ينسى توفيق الحكيم فى مقاله المهم أن يشير إلى كتاب «حياة محمد» لمحمد حسين هيكل، فرغم أنه يتعامل معه على أنه كتابة علمية، إلا أنه يقول: أعتقد أن أسلوب الدكتور هيكل فى «حياة محمد» يدخل أيضًا فى الكتابة الأدبية، فإن هذا الكتاب فى نظرى يعتبر من كتب التراجم والسير التى يضعها الكتاب الأدباء، لا من البحوث العلمية التى يؤلفها المؤرخون العلماء ويعنون فيها بإضافة شىء جديد إلى العلم المعروف، أو استكشاف وثيقة من الوثائق التحريرية أو الآدمية، أو تحقيق مصدر من المصادر، على أن كتاب هيكل هو بلا نزاع أول سيرة نبوية خليقة بأن تمثل تطور العقلية الإسلامية فى العصر الحديث.
لا أستطيع أن أغادر مقال توفيق الحكيم الذى يمثل بالنسبة لى وثيقة تاريخية مهمة دون أن أتوقف أمام عبارته التى يقول فيها: «ما أشق انتظارنا، هذه الأجيال الطويلة، لهذه السيرة الحديثة نضعها إلى جانب سيرة ابن هشام والسيرة الحلبية وطبقات ابن سعد وغيرها من السير القديمة حتى يستطيع عصرنا أن يجهر بأنه فعل شيئًا من أجل الإسلام».
قدّم لنا الحكيم ما يبرر تعامله مع كتاب «حياة محمد» على أنه إنجاز علمى وحضارى كبير، فمن وجهة نظره: إن الناس لم تعد تعنى بتلك الكتب المفعمة بالثناء الأجوف والألقاب الطويلة يحاط بها اسم النبى، وهو فى عظمته أجلّ من أن يحتاج إليها، إنما يريد الناس اليوم حقيقة مجردة ناصعة فى تجردها أجمل وأسمى وأبلغ فى النفوذ إلى القلوب، وهذا ما صنع هيكل بك فى كتابه على نحو خليق بالثناء، فقد أسقط من حياة النبى تلك المعجزات التى لا تغنى من الحق شيئًا ما دمنا فى مجال التدليل العقلى، وأظهر شخصية النبى عظيمة فى بشريتها السامية، وأبان عن غرض النبى فى الدعوة إلى دين جوهره اقتناع النفس بالحقيقة العليا، إن هذه النظرة الجديدة فيها إجلال للنبوة، وإن أولئك السفهاء الذين كانوا يطلبون إلى الأنبياء أن يثبتوا نبوتهم بالمعجزات قد أثموا فى حق الفكر البشرى قبل أن يأثموا فى حق الدين.
لم ينس توفيق الحكيم ثأره الفكرى من فولتير، وهنا يستعين بما كتبه هيكل ليرد عليه.
يقول: فى كتاب هيكل صفحات تصلح ردًا بليغًا على فولتير، إن محمد هو أعظم من فهم حقيقة النبوة، ووعى معنى الحقيقة العليا، وأدرك أن أكبر معجزة فى هذا الكون هى أنه لا توجد فى الكون معجزات، وأن كل شىء يسير وفقًا لنظام دقيق، وإذا قيل نظام قيل قانون، وإذا قيل قانون قيل عقل مدبر، وهذا العقل واحد أحد تبدو سمته فى إدارة الأجسام غير المحدودة كما تبدو فى إدارة الأجسام غير المحدودة فى الصغر، ذات اليد العلوية وعين أثرها فى كل شىء، يد واحدة لا تتغير وقانون واحد لا يتغير، إن محمدًا كما يبدو فى وصف الدكتور هيكل قد تأمل الطبيعة كثيرًا، وفكر مليًا فى نظامها العجيب، فكشف عن بصيرته وبصره فامتلأ قلبه بالله، كما اقتنع عقله بوجوده، فجاء دينًا كاملًا، صادقًا فى نظر القلب والعقل معًا، ولئن كان على الأرض أحب العلم، ولم يخش دينه العلم، ولم يضطهد العلماء، فهو محمد الذى قال: فضل العلم خير من فضل العبادة، ذلك أن مصدر إقناع العلم ومصدر اقتناع محمد واحد: الكون وملاحظة ما فيه من إبداع ينم عن يد الخلاق العظيم.
هنا يضع توفيق الحكيم يدنا على سر الإضافة التى أضافها الكتاب المصريون الذين دخلوا إلى كتابة السيرة النبوية بأساليب جديدة، وهى الإضافة نفسها التى حاول الكثيرون الانتقاص منها دون فائدة، فقد ظلت هذه الكتابات، وما زالت الأجيال الجديدة تقبل عليها.
وإذا سألتنى عن سر تحرك هؤلاء الكتاب جميعًا صوب النبى، يكتبون عنه الدراسات والمسرحيات والروايات والأشعار، سأقول لك إنه بعيدًا عن كل التفسيرات والتخمينات والاتهامات، فإنهم فى الغالب اتجهوا إلى النبى بروح محبة وعاشقة، ربما لا يعرف كثيرون منهم سرها، لكنها فى النهاية هى الروح التى نبحث هنا عنها.. روح خاصة تجمع المصريين بالنبى الأعظم دون إرادة منهم أو اختيار.