رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إبراهيم عبدالمجيد: بدون إيمان يمكن أن تنتحر.. وأفضل عبادة ألّا تخطئ فى حق البشر

الروائى الكبير إبراهيم
الروائى الكبير إبراهيم عبدالمجيد


هذا رجل يحيطه «المدد» من كل جانب.. وضع والده ٣ شمعات يحمل كل منها اسم ولى من أولياء الله الصالحين فى هواء إسكندرية العاصف خلال شهر ديسمبر، فصمدت الشمعة التى يزينها اسم إبراهيم الدسوقى، فحمل صاحبنا اسم القطب الصوفى الكبير.
وبينما ينام بجواره والده الذى لا يفارقه المصحف أبدًا، وكان قد تعرض لأزمة فى عمله تهدده بالفصل، ودعا ربه «أنى مغلوب فانتصر»، فوجئ بـ«طائر يخترق سقف الغرفة ويرفرف فوقهما»، وبثقة المنتصر طمأن الأب ابنه أن هذا «مدد الله».
لم يقتصر الأمر على الطفولة، فبينما يشرف على إحدى الفعاليات فى معرض القاهرة الدولى للكتاب، تصدق على أحد المحتاجين بـ٥٠ جنيهًا، فجاءته النفحة الربانية بعد نصف ساعة فقط، من خلال تعاقد مع إحدى دور النشر بـ٥٠٠ جنيه ليردد: «حقًا.. الحسنة بعشرة أمثالها».
إنه الكاتب الكبير إبراهيم عبدالمجيد، الذى يختص «الدستور» فى السطور التالية بتفاصيل العديد من «العطايا الربانية»، طوال مشواره الممتد فى حياة يؤمن فيها بأن «أفضل عبادة هى ألّا تخطئ فى حق البشر»، وأن الإيمان بالله ضرورة، فمن ستلجأ إليه حال تقطعت بك السبل غيره؟


■ ما الذى يمثله الله عند الروائى الكبير إبراهيم عبدالمجيد؟
- هناك التصور العادى القائم على أن الله هو حارس الطيبين وحاميهم، وأن الرزق والنجاح وكل شىء يتم بأمره، وهذا التصور زرعته التربية فى بيت يتميز بوجود أب متدين، يحب قراءة القرآن كل يوم فى غرفته ونسمعه نحن فى الغرف الأخرى، ولم يكن الله غائبًا عن حديثه أبدًا، خاصة فى الأزمات التى تقابله أو تقابلنا أو تقابل أصدقاءه.
مع الوقت قرأت ودرست الفلسفة والتاريخ وغيرهما من العلوم القريبة، وأدركت أن فكرة «الإله» خطرت للإنسان البدائى، حين رأى الطبيعة حوله قاسية مليئة بالوحوش والعواصف والبراكين وفيضانات الأنهار والبحار، وغير ذلك من المصاعب، ففكر أنه لا بد من وجود قوة عليا تحميه من ذلك كله، فراح يعبد كثيرًا من تلك الوحوش أو الظواهر مثل الأنهار، «السيئ» منها ليتقى شره، و«الحلو» ليفوز بخيره.
وعرف المصرى القديم آلهة لها رءوس الصقور والحيوانات، ومنهم مَن عبد «الجعران» ونهر النيل وغير ذلك، ووضع أشكالًا متخيلة وأسماء للآلهة التى لا يراها، لكنه أدركها مثل «أوزوريس» إله الآخرة، و«ماعت» إله العدل، و«حتحور» إلهة الخصوبة، ورسم لها رسومًا وأقام التماثيل ليعبدها، وهو ما تكرر فى كل البلاد القديمة مع اختلاف «أشكال» الآلهة.
وبنى الإنسان معابد لهذه الآلهة التى تعددت فى كل الدنيا، وصار للمعابد كهنة تحولوا مع الزمن إلى مراكز قوى يفوزون بما يقدمه الناس من قرابين ويعطون الناس صكوكًا بالغفران، فصارت لهم قوة أكبر من قوة الحاكم، إلى أن جاء إخناتون أو أمنحتب الرابع، فى القرن الخامس عشر قبل الميلاد، وقرر التخلص من هذا النفوذ، وأعلن إلهًا واحدًا هو «آتون»- الشمس- لكنه مات وعاد الكهنة إلى قوتهم وعادت الآلهة القديمة إلى معابدها.
انتهى التوحيد شكلًا، لكن فكرته ظلت فى الأذهان، وانتقل العقل البشرى من «التشخيص» إلى «التجريد»، وبعدها جاءت اليهودية ثم المسيحية ثم الإسلام، وسواء كان موسى تلميذًا لـ«إخناتون» أم لا، صارت فكرة الإله الواحد فى الأذهان.
■ ماذا حدث بعد ذلك فى العصور التالية؟
- فى العصور الوسطى بأوروبا عاد الكهنة لأفعال سابقيهم القدامى، وحاربوا العلم والعلماء؛ ليظل الناس جهلاء تسهل السيطرة عليهم، ثم تخلصت أوروبا منهم وفصلت بين الدين والدولة، لكن الكهنة ظهروا عندنا من جديد فى السبعينيات بالأفكار نفسها التى أفرزت تنظيمًا إرهابيًا مثل «داعش».
وبالاطلاع على ما حدث قديمًا وحديثًا، أدركت أن الله شىء والكهنة والمشايخ شىء آخر، وظِلُ الله بالنسبة لى ملاذ أشكره عند الفرح وألجأ إليه عند الأزمة، وأصبحت مقتنعًا بأنه دون الإيمان يمكن أن تنتحر، خاصة أن ما حولك قد يكون أصعب من قدرتك على تغييره، فلا تجد إلا أن تقول: «حسبى الله ونعم الوكيل».
وانتهى الأمر بى إلى أن أفضل عبادة لله هى ألّا تخطئ فى حق البشر، فالله يمكن أن يغفر لك ألا تصوم وألا تصلى أو أى شىء تفعله بنفسك، لكن لا يغفر لك أى شىء تظلم به الآخرين، وهذه هى الفكرة الأولى التى اهتدى إليها الإنسان بمعرفة الله.
■ هل سبق لك أن اختبرت وجود الله بنفسك؟
- حدثت معى صدف غريبة جدًا لا تفسير لها إلا أن الله يحقق لى ما أريد.. إليك هذه الحكاية مثلًا: فى إحدى المرات، كنت أشرف على «المقهى الثقافى» فى معرض الكتاب، خلال فترة منتصف التسعينيات، وكنت فى أثناء الندوات غالبًا ما أجلس فى المقهى نفسه أشرب مشروبًا بمفردى أو مع أحد من الذين لا يحضرون الندوة، وفى يوم جاءنى صبى صغير صافحنى وقال لى: «حضرتك الأستاذ فلان؟»، قلت: «نعم»، قال لى: «أنا من الفيوم وطالب فى الصف الثانى الإعدادى، وجئت لأعمل فى إجازة نصف السنة؛ لأن أهلى فقراء».
سألته عن عمره فقال: «١٤ سنة»، قلت له: «أنت لا تحمل بطاقة شخصية، وهذا مكان ملك للدولة ولا يسمح بتوظيف أو منح المال لأى شخص إلا إذا كان يحمل بطاقة شخصية»، واعتذرت له ثم أخرجت من جيبى ما فيه، وكان ٥٠ جنيهًا وأعطيتها له، وقلت له: «اذهب إلى أى دار نشر خاصة من الدور التى تعرض أعمالها هنا فى المعرض، وقل لهم إنى أرسلتك إليهم، ربما تجد بينهم من يمنحك فرصة للعمل؛ لأنها دور خاصة ولا تحكمها قوانين القطاع العام».
انصرف وجلست وليس معى مليم واحد ولا أهتم، معى سيارتى فقط التى سأعود بها إلى البيت، ولم تمر دقائق حتى وجدت شابًا يقترب منى ويصافحنى ويعرفنى بنفسه، وقال إنه ناشر سورى ويريد أى رواية لى ليطبعها، قلت له ليس عندى أى عمل جديد، فسألنى أن أرشح له رواية مطبوعة، فرشحت له رواية «المسافات»، وكانت مطبوعة منذ سنوات فى دار «المستقبل العربى»، فأخرج من جيبه ٥٠٠ جنيه وأعطاها لى «عربون» تعاقد.
سألته عن تفاصيل عقد العمل وتوقيع الأوراق الرسمية وخلافه، فقال: «سنكتبه فيما بعد.. المهم وقع لى على إيصال تسلم النقدية»..... هل تصدق أنى نسيت اسمه واسم دار النشر ولم أسمع أبدًا رغم مرور أكثر من ٢٥ سنة أن هذه الرواية صدرت فى سوريا؟ يومها لم أعد إلى البيت، عدت إلى «الجريون» وعزمت الأصدقاء وأنا أضحك وأقول: «الحسنة بعشرة أمثالها.. وبعد نصف ساعة يا ولاد!».
أما الكتابة فما أكثر المرات التى أهدانى فيها الله ما أريده أو أفكر فيه، والحديث فى ذلك يطول، وكثير منها فى كتابى: «ما وراء الكتابة.. تجربتى مع الإبداع»، فالله هو مانح القدرة على استيعاب آلام الحياة، وبقدر صدقك الروحى يقف معك فى الحياة والكتابة.
■ متى شعرت بأن الله قريب منك جدًا؟
- فى أوقات كثيرة جدًا، لأن حياة الأدباء فى عالمنا ليست سهلة، وللأسف مليئة بالعداوات، ولقد كرس عدد منهم نفسه لقطع عيشى- زمان طبعًا- من أى مجلة أو جريدة أكتب فيها، واستمروا على ذلك ٢٠ أو ٢٥ سنة، لكنهم لم يهزمونى لأنى لم أهتم أبدًا، ورفعت شعارًا كان تعبيرًا عن تمجيدى الدين فى رواية «لا أحد ينام فى الإسكندرية»، هو «تبات نار تصبح رماد»، وكل الجوائز التى حصلت عليها أنهت أزمات مالية طاحنة كانت تعصف بى، فهل هناك أفضل من ذلك كرمًا من الله؟!
■ من أول شخص رأيت الله من خلاله؟
- أبى رحمة الله عليه، وكانت ليلة غريبة جدًا. كان يمر بمحنة كبيرة فى العمل قد تتسبب فى فصله، وكنت تقريبًا فى السادسة من عمرى، ونمت بجواره على السرير، وكان شاردًا ينظر إلى سقف الغرفة وبدأ يردد أسماء الله الحسنى، كان يفعل ذلك كثيرًا فى الأزمات وغيرها.
فى تلك الليلة استمر لوقت طويل يردد أسماء الله الحسنى، وكان يقول «يا لطيف» عشرات المرات، وتأثر وهو يردده لما يشعر به من غبن، وأنا نائم على ظهرى وعيناى مفتوحتان؛ فإذا بى أرى طائرًا يهبط مخترقًا السقف يرفرف علينا ثم اختفى، فصرخت مرعوبًا، فاحتضننى قائلًا: «ما تخافش ما تخافش».
وجاءت أمى من الغرفة الأخرى تسأل صارخة، فقلت لها ما رأيته، فقالت: «ما تنامش جنبه تانى يا إبراهيم»، لكن أبى وقف وقال: «غدًا سيعود لى حقى». وبالفعل ذهب إلى العمل وعاد فرحًا وانتهت المشكلة، واعتذروا له عن الظلم، من يومها صار عندى يقين بأن الله مع الصالحين، المهم أن تكون من أصحاب القلوب السليمة والأرواح النقية. كتبت هذا المشهد فى رواية «المسافات». لم يكن من تأليفى والله لكنى رأيته.
■ يلاحظ القارئ الكثير من الأفكار الصوفية فى رواياتك.. هل ذلك مقصود؟
- التصوف يظهر فى سلوك كثير من شخصياتى الروائية، فكثير جدًا من شخصياتى فى عالم واسع أو صعب، يهربون منه بالخيالات ويرون علامات محيرة لا يجدون لها تفسيرًا إلا أنها رسائل من الله، لا أذكر تفاصيل محددة من قصصى ورواياتى أو لا يتسع المقام لذكرها، لكنها تبحث دائمًا عن الله وتزهد فى مغريات الدنيا.
■ ما علاقتك بقراء القرآن؟ ومن قارئك المفضل؟
- علاقتى بالقرآن قديمة، ففى طفولتى كنت أسمعه من أبى الذى يقرأ فى غرفته، لكنى بعد ذلك عشقت أصواتًا مثل عبدالباسط عبدالصمد، ومحمد رفعت، ومحمود خليل الحصرى، وغيرهم، وأجمل ٥ دقائق فى حياتى أسمعها بصوت الشيخ محمد رفعت، قبل الإفطار فى رمضان، وهؤلاء وغيرهم من المقرئين القدامى يحملوننى فوق السحاب، وكثيرًا ما أبكى والله حين أسمعهم، خاصة فى الليل أو فى ساعة الإفطار حين يصبح العالم صامتًا.
■ نشأت فى الإسكندرية العامرة بـ«أولياء الله الصالحين».. هل لك حكايات معهم؟
- هل تعرف أولًا من أين جاء اسمى؟ كان أبى وأمى قد فقدا طفلين قبل ميلادى. حين ولدتنى أمى قرر أبى أن يضع على النافذة ٣ شمعات، وأعطى كل شمعة اسمًا لولىّ. «إبراهيم» نسبة لـ«إبراهيم الدسوقى»، و«مرسى» نسبة للمرسى أبوالعباس، و«سيد» نسبة للسيد البدوى، وقال لأمى: «الشمعة التى لن يطفئها الهواء سنعطيه اسمها».. وأنا من مواليد ديسمبر، يعنى شتاء وهواء، لم يطفئ الهواء شمعة «إبراهيم» فسمونى باسمه، وظل كل عام يأخذنا إلى مولد سيدى إبراهيم الدسوقى لسنوات.
كما أن أجمل صلوات الأعياد كانت فى جامع المرسى أبوالعباس، وأيام الطفولة كانت أجمل الصلوات فى جامع سيدى القبارى، ورأيت سيدى «أبوالدرداء»، أو كما نسميه فى الإسكندرية «أبوالدردار»، مئات المرات فى طريقى إلى المنشية ومحطة الرمل قادمًا من كرموز، وأتذكر فى كل مرة حديثهم عنه، وكيف كان يرفع يديه فى الحرب العالمية الثانية يتلقى القنابل قبل نزولها على الأرض وينزلها بهدوء حاميًا المدينة.
■ وماذا عن «أولياء القاهرة»؟
- حين جئت القاهرة كانت منطقة الحسين ومسجد الحسين كعبة دائمة لى، والأمر نفسه بالنسبة للسيدة زينب، كما يحدث معى شىء غريب حين أزور الأولياء خارج مصر، حيث يأخذنى البكاء ويندهش من هم معى من الأدباء.
فى مرة كنت فى الموصل أواخر الثمانينيات، وكنت أمشى مع شاب عراقى فرأيت جامعًا جميلًا معلقًا على مكان عالٍ قليلًا عن الرصيف. سألته: «لمن هذا الجامع؟» قال لى: «جامع سيدنا يونس». قلت: «سأدخل أصلى ركعتين وأطلب النجاة لى ولأسرتى فى الحياة»، فقال لى: «هل تصدق أن يونس كان هنا؟».
أنا طبعًا قرأت كثيرًا فى الأمر وأعرف أن نهر دجلة لا يتسع للحيتان ودراسات تقول إنه يمكن أن يكون فى المحيط مثلًا قرب عُمان، لكنى قلت له: «يا أخى العلم شىء والإيمان شىء آخر، الإيمان مريح، اتركنى الله يخليك»، وصعدت وصليت ودعوت الله بما أريد وعدت مرتاحًا مؤمنًا باستجابة الله، فقد استقر فى روحى منذ قرأت أن الإيمان مريح للبشر، لكن بعيدًا عن شرح وتفسير من يقولون عنهم علماء فى الدين، الإيمان أبسط من هذا كله.
مرة أخرى كنت فى الرقة بسوريا وزرت جامع «عمار بن ياسر»، وكانت معى الصديقة شهلا العجيلى، أيام «مهرجان العجيلى» قبل الخراب الذى حل بسوريا، ومعى الصديق سيد الوكيل، ما إن دخلت الجامع حتى تذكرت حديث الرسول لعمّار بن ياسر: «تقتلك الفئة الباغية»، واندفعت دون قصد أبكى بشدة و«الوكيل» يقول لى: «معقول أنت بتبكى كدا؟»، و«شهلا» وقفت صامتة وكانت أول مرة ألتقى بها.
كذلك زرت مسجد الحسين فى كربلاء، ومسجد الحسين فى سوريا، لكن فى سوريا ضحكت، كان ذلك قبل الخراب، وجدتهم أمام جدار المسجد يقفون طابورًا يقبّلون حفرة صغيرة فى الجدار، وقفت لأفعل مثلهم، كان أمامى شخص ما إن وصل لمكان القُبلات حتى أخرج من جيبه منديل «كلينكس» ومسحه خوفًا من العدوى التى يمكن أن تكون قد انتقلت إلى الجدار من القبلات السابقة، بصراحة لم أستطع ان أمسك نفسى عن الضحك، لم أبك ذلك اليوم.