رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الرسول فى مصر «10»

محمد الباز يكتب: سر اللعنة التى تطارد «حياة محمد»

محمد الباز
محمد الباز

بعد أن أنهى محمد حسين هيكل كتابه «حياة محمد»، وأصبح واقعًا يطارده فى كل مكان يؤمه، شعر بأنه فى حاجة إلى أن يزور النبى، صلى الله عليه وسلم، فى مرقده، يسير فى الطرقات التى سار فيها، ويطل على الأماكن التى عاش بها، وسجل النقلات الكبرى فى حياته، وهى الرحلة التى سجلها فى كتابه «فى منزل الوحى».
ينظر الكثيرون إلى هذا الكتاب على أنه أدب رحلات، رغم أنه فى الواقع أكثر من ذلك بكثير.
تمت رحلة محمد حسين هيكل فى العام ١٣٥٥ هجرية، وسجل هو شعوره بها، بقوله: حرصت على أن أقف ما استطعت عند البحوث التى تناولت بلاد العرب، منذ بدأت أكتب السيرة وأنشرها تباعًا فى فصول كتابى «حياة محمد»، ولقد وفقت لبعض ما أردت فى الكتب العربية التى كتبت فى العصور الإسلامية الأولى، وفيما كتب بالعربية من بحوث فى هذه العصور الأخيرة، كما وفقت لناحية أخرى منه فيما كتبه علماء الغرب ورجال الرحلات فيه، ولكننى شعرت آخر الأمر بأننى سأظل ينقصنى جوهر ما أبحث عنه إذا أنا لم أذهب إلى بلاد النبى العربى بنفسى، ولم أقف حيث وقف فى أدق ما مر به أثناء حياته، ولم أمهد لذلك بل أحيط- فى حدود الطاقة- بالبيئة العامة التى نشأ فيها، وإنما كنت أفكر فى هذا لأتم به بحوثى فى السيرة، فأما أن أجعله موضوع كتاب مستقل، فذلك ما لم يدر بخلدى بادئ الرأى.
كانت هناك حقيقة كاملة فى انتظار محمد حسين هيكل، يقول: لما ذهبت إلى الحجاز وتجولت فيه، تبينت أن ما قمت به من بحوث يتعدى السيرة إلى عصرنا الحاضر، لذلك رأيت من الخير أن أطالع القراء بكتاب مستقل يتناول ما رأيت، ويتناول ما أحسست به حين كررت بالزمن راجعًا إلى عهد الرسول، وما كان من حياة المسلمين فى عهدهم الأول، ثم ما أصاب البلاد الإسلامية المقدسة بعد ذلك إلى وقتنا الحاضر، مع الإشارة الموجزة إلى ما أرجو أن يكون القدر قد خطّه فى لوحة لهذه البلاد يوم ينصر الله دينه على الدين كله.
الرحلة كلها كانت روحية إذن، قصد بها محمد حسين هيكل أن يؤكد بها صدق كل ما ذهب إليه فى كتابه «حياة محمد»، وهو الكتاب الذى أخرجه لوجه الحق وحده كما قال، لكن هناك كثيرين خالفوه فيما ذهب إليه وهو أمر إنسانى طبيعى جدًا.
لن أعدد من خالفوا محمد حسين هيكل فيما ذهب إليه فى سرده حياة محمد، سأقف بكم أمام ما يمكننا اعتباره ثلاثة اتجاهات.
الاتجاه الأول هو الاتجاه الوسطى الذى يمثله الأزهر الشريف.
فى العام ٢٠١٩، قدم مركز الأزهر العالمى للفتوى الإلكترونية لقرائه كتاب «حياة محمد»، ضمن مشروعه التثقيفى الذى يمكن التعامل معه على أنه جزء من مواجهة الأزهر الكبرى لمشروع الإرهاب الذى لا يريد أن يهدأ أبدًا.
يعترف الأزهر بأن دافع محمد حسين هيكل لتأليف كتابه «حياة محمد» هو ما لمسه فى عصره من تجرؤ الكثيرين على الطعن فى الإسلام ورسوله، صلى الله عليه وسلم، وسيرته بدافع حرية الرأى، فعمد إلى دراسة حياة محمد صاحب الرسالة الإسلامية، وهدم من خلال هذه الدراسة كثيرًا من شبهات الطاعنين، مختارًا لدراسته أن تكون على الطريقة الغربية الحديثة التى تقتضى تجرد الباحث من أى رأى وعقيدة سابقة، مع الملاحظة والتجربة ثم الموازنة والترتيب فالاستنباط القائم على هذه المقدمات العلمية، ولهذا طالع هيكل الكثير من كتب السير والتاريخ، إضافة إلى ما كتبه المستشرقون فى ذلك الجانب، ليكتب عن حياة محمد، صلى الله عليه وسلم، بطريقة علمية، كتابة مفصلة، متخذًا أمثل الوسائل وفق هذا المنهج جهد ما يستطيع.
واصل الأزهر ما يمكننا اعتباره تغزله فى كتاب هيكل، يقول: المطالع للكتاب يرى فيه من الرقة والبداعة والعذوبة والخيال ما يجعل قارئه لا يمل منه. ففصول الكتاب التى تجاوزت الثلاثين متماسكة كالسلسلة، يشد بعضها بعضًا، حيث يربط الكاتب فيها بين الوقائع بتصوير لا يشتت القارئ، مع تحليل لها باستخدام استنتاجات عقلية تجعل القارئ يقف على أسبابها وآثارها، ردًا على ما قد يثار من شبهات حول القضية التى تناولها بمنطقية وسلاسة، مع إيراد المعنى الواحد بأساليب مختلفة، الأمر الذى يجعل القارئ أمام أجوبة متعددة مزيلة اللبس ومعينة على الفهم.
حتى الآن كلام الأزهر طيب جدًا عن كتاب هيكل، لكن الكلام لا يظل طيبًا إلى النهاية، يعرج بنا تقرير الأزهر عن الكتاب إلى ما يعتبره نقائصه.
يقول تقرير الأزهر: ورغم كل المحاسن التى حوتها صفحات الكتاب التى تجاوزت الخمسمائة صفحة، إلا أنه كطبيعة أى عمل بشرى، مهما بذل فيه من جهود، لا يصل إلى درجة الكمال، ولا يخلو من انتقادات، ومن بين هذه الانتقادات تأثر المؤلف فى كتابه بكتابات المستشرقين، وحذوه حذوهم فى إثبات وإنكار بعض المعجزات لاعتماده منهجهم فى ذلك، وتركه بعض روايات السيرة الصحيحة السند، لا لشىء إلا لكونها لا تدخل فى معروف العقل لديه.
لم يكن هذا هو انتقاد الأزهر الوحيد، بل أشاروا إلى أنه يؤخذ على هيكل اعتماده فى بعض الأحايين على أحاديث لا أصل لها، تدليلًا على فكرة رآها، وكذا إيراده بعض الأحاديث بالمعنى دون اهتمام بألفاظها، مع وجود بعض الأخطاء النحوية والصرفية.
تظل مؤاخذات الأزهر على الكتاب ملاحظات يمكن أن نعتبرها علمية، لا قصد فيها للإساءة أو التقليل من شأن الكتاب وصاحبه، لكن هناك من حاول التقليل والانتقاص فى الغالب عامدًا متعمدًا.
نصل بكم إلى الاتجاه الثانى وهو المتشدد، ونعرض له من خلاله مقالًا كتبه محمد صالح المنجد فى العام ٢٠٠٧ على موقع مداد، واضعًا له عنوانًا دالًا وموحيًا هو «بعض الأسباب التى جعلت العلمانيين يكتبون فى السيرة النبوية».
لكن من هو محمد صالح المنجد أولًا؟
هو داعية سورى، نشأ فى الرياض وتعلم فى المملكة العربية السعودية، حيث تخرج فى جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، قسم إدارة صناعية، لكنه تحول إلى الدعوة بتوجيه من الشيخ عبدالعزيز بن باز، حيث وضعه على أول الطريق إمامًا وخطيبًا وهو دون الثلاثين من عمره.
من بين ما ينسب للمنجد أنه أول من استخدم الإنترنت فى الدعوة لمنهجه، الذى لم يعد خافيًا عليك الآن، فهو من أبناء الشيخ ابن باز السلفى الغارق حتى أذنيه فى التشدد.
يفتح المنجد بمقاله قضية أعتقد أنها مهمة للغاية، وهى لماذا كتب العلمانيون فى السيرة النبوية؟، والعلمانيون الذين يقصدهم هم محمد حسين هيكل والعقاد وطه حسين ومن سار على طريقهم.
من وجهة نظره أن هذه الكتابات ظهرت لسببين:
الأول ظهور حركة التبشير المسيحى الضخمة فى القاهرة عن طريق الجامعة الأمريكية فى العام ١٩٣٢، وتنصير عدد من الطلاب المسلمين بها، وكان ذلك جزءًا من موجة ضخمة قام بها الغرب بعد أن استردت الفاتيكان الأموال الطائلة التى كانت قد احتجزتها الحكومة الإيطالية.
هنا يخضع المنجد لنظرية المؤامرة تمامًا، فهو لم يقرأ فى الغالب دوافع طه حسين والعقاد وهيكل وتوفيق الحكيم لكتابتهم فى سيرة النبى، بل لم يعرف أن تفكيرهم فى معظم كتاباتهم كان قبل التاريخ الذى حدده وهو العام ١٩٣٢، لكنه منهج السلفيين وفلسفتهم التى تقوم على أن العالم كله يتآمر على الإسلام ليل نهار.
السبب الثانى من وجهة نظر المؤرخين الذين ينقل عنهم المنجد دون أن يحدد لنا منهم اسمًا واحدًا، هو أثر الحرب العالمية الثانية فى نفوس الناس بالدعوة إلى الرجعة إلى الدين، والتطلع إلى آفاق جديدة تقدمها رسالات السماء وفى مقدمتها الإسلام.
وهذا أيضًا قول مردود عليه، عندما نعرف أن معظم هذه الكتب استقبلتها المكتبة العربية قبل أن تحل على العالم كارثة الحرب العالمية الثانية بما خلفته وراءها من خراب النفوس وتوحش القلوب.
الكلام حتى الآن يمكن أن يؤخذ منه ويرد عليه، لكن ما لن يعجبك أبدًا، هو ما ذهب إليه المنجد، وينزع به عن العلمانيين الذين كتبوا فى السيرة النبوية كل مكرمة.
فهو يرى أن حزب الأحرار الدستوريين الذى تم تأسيسه فى مصر فى العام ١٩١٣ سعى إلى كسب مشاعر الوطنيين بعد أن اتهمه المصريون بأنه يجمع دعاة التغريب وأساطينه، وصدرت من تحت عباءته كتب أثارت ضجة وخالفت مفاهيم الإسلام الأساسية وهزت مشاعر الناس مثل «الشعر الجاهلى» لطه حسين، و«الإسلام وأصول الحكم» لعلى عبدالرازق، ولذلك قرروا أن يدخلوا إلى المواطنين من خلال عاطفتهم، فدفعوا محمد حسين هيكل ليكتب كتابه «حياة محمد».
يذهب المنجد كذلك إلى أن الائتلاف الذى جرى بين البلاشفة والرأسماليين لمواجهة النازية أثناء الحرب العالمية الثانية، وما تسرب إلى البلاد العربية من دعايات شيوعية، ورغبة الغرب فى مواجهتها عن طريق تزييف مفهوم الماركسية عن البطولة الجماعية، ورد الاعتبار للبطولة الفردية التى كانت عنوانًا للفكر الليبرالى العربى، ومن هنا كانت الكتابة عن البطولات الإسلامية من منطلق غربى، وقد يساعدنا ذلك فى فهم لماذا كتب العقاد عبقرياته؟ 
يرفض المنجد تمامًا أن تكون هذه الكتابات لوجه الحقيقة، وينفى أى نفع للإسلام منها، فمحمد حسين هيكل وغيره ممن كتبوا فى سيرة الرسول، صلى الله عليه وسلم، لم يكونوا من المعروفين بالاهتمام بالدراسات الإسلامية، ويميل إلى أن هيكل حقق قدرًا ضخمًا من الكسب المادى من كتابه، فأصبحت الكتابة الإسلامية بعد ذلك موضع تقدير فى نظر رفاقه من الكُتّاب.
وبالنسبة له فإن هذه الكتابات لم تصدر عن إيمان برسالة الإسلام دينًا ودولة، وإنما كانت من الآمال السياسية والحزبية، وإذا كانت كتب «حياة محمد» و«على هامش السيرة» و«عبقريات العقاد» قد هزت وجدان الشعب المسلم وقتها، وأحدثت نوعًا من الإعجاب والتقدير- فإن هذا كان هدفًا مقصودًا من الجهات التى شجعت ذلك.
ستسألنى عن هذه الأهداف، ولأنها من بنات أفكار المنجد، فسأدعه يواصل حديثه، يستعرض ما يعتقد أنه صحيح عن أهداف من دفعوا الكُتّاب الكبار إلى الكتابة فى الإسلاميات، بأنها:
أولًا: مواجهة حركة اليقظة الإسلامية التى كانت تهدف إلى تقديم الإسلام كمنهج حياة ونظام مجتمع بكتابات إسلامية من أقلام لها مكانتها السياسية فى الجماهير، لتحويل التيار نحو المفاهيم العلمانية والليبرالية، وهو ما يسمى «تقديم البديل» المتشابه ظاهريًا والمختلف جوهريًا.. وهو بهذا استجابة ظاهرية للموجة الإسلامية ومحاولة لاحتوائها.
ثانيًا: فرض المفهوم الغربى على السيرة والتاريخ الإسلاميين، وهو المفهوم المفرغ من الوحى والغيبيات والمعجزات.
وحتى يدلل المنجد على ما يعتقد أنه صواب، يشير إلى الثلاثة الكبار.
فمحمد حسين هيكل عنده بدأ عمله فى كتابة السيرة بترجمة كتاب «إميل درمنجم» الكاثوليكى الفرنسى، ويتبنى كثيرًا من آرائه التى يمكن أن توصف بالخطأ، أو عدم القدرة على فهم الإسلام، أو متابعة هدف يرمى إلى التقريب بين الأديان، وهو هدف ضال «!!!!» علامات التعجب من عندى بالطبع.
والعقاد بالنسبة له بدأ عمله بمنطق غربى محض هو فكرة العبقرية التى تناولها كتاب الغرب، ويسحب ذلك على النبى المؤيد بالوحى، وعلى العظماء من الصحابة دون تفرقة واضحة بين النبى والصحابى.
ونصل إلى طه حسين حيث يأخذ عليه المنجد أنه أعلن فى غير ما حرج، أنه استوحى «على هامش السيرة» من كتاب «جيل لوميتر» عنوانه «على هامش الكتب القديمة»، وأنه يحشد فيه كل ما استطاع من أساطير اليونان والمسيحية واليهودية والإسرائيليات.
لا يمكن أن تطمئن إلى ما يقوله المنجد الذى ينطلق من أرضية إهالة التراب على هذه الكتابات الإسلامية الراقية، وذلك لأن ما قاله يشى بأنه لم يقرأ هذا الكتب ولم يصل إلى حقيقتها أبدًا، وإلا ما كان قال ما قاله، لكنها على أى حال محاولة للانتقاص من الكتابات العلمية للسيرة النبوية لصالح الكتابات السلفية.
الغريب أن بعض أبناء المدرسة العلمانية يرفضون هذه الكتابات أيضًا، وهنا يظهر لنا الاتجاه الثالث.
فى فبراير ٢٠١٥ نشر موقع الحوار المتمدن مقالًا لكاتبه محسن المالكى، عنوانه «مع محمد حسين هيكل فى حياة محمد».
يذهب المالكى فى مقاله إلى أن الكُتّاب والمثقفين أسهموا فى تشجيع فكر متخلف مساند للأنظمة القمعية والاستبدادية، ويقول: من هؤلاء يأتى محمد حسين هيكل الذى بدأ فى تأليف كتاب أسماه «حياة محمد»، الذى قاده إلى وضع هذا البحث أمور عدة نلخصها بقوله «بدأت أراجع تاريخ محمد وأعيد النظر فى سيرة ابن هشام وطبقات ابن سعد ومغازى الواقدى، وعدت إلى كتاب سيد أمير على (روح الإسلام)، ثم حرصت على أن أقرأ ما كتب بعض المستشرقين، لكن ما لقيت من إقبال وتشجيع من طائفة شيوخ المعاهد، جعلنى أفكر تفكيرًا جديًا فى تنفيذ ما اعتزمت عليه من كتابة حياة محمد هى الطريقة العلمية الحديثة».
ويسأل المالكى: هل كان هيكل صادقًا فى كتابة السيرة بالطريقة العلمية كما يدعى، أم أنها كانت مجرد رقم يضاف إلى الأعداد الهائلة من السير؟
وتتواصل الأسئلة: كيف اختار هيكل منهجه لكتابة التاريخ؟ ثم ما الدوافع التى دفعته نحو كتابة «حياة محمد»؟ وهل نحن بحاجة إلى مصدر يضاف إلى الأعداد الهائلة والتى تعد بالمئات فى السيرة، خاصة أنه لا توجد شخصية فى التاريخ أرّخ لها كمحمد، أليس الهدف هو إبقاء الأمة متخلفة كى لا يمكنها اللحاق بالعالم المتحضر، وبالتالى البقاء فى عالم الاستبداد الذى رسخه الإسلام؟
يقتحم محسن المالكى المنطقة الخطرة، يقول منتقدًا ما فعله محمد حسين هيكل: حياة محمد اشتملت على معالجات غير جيدة لا تخلو من التدليس والكذب، مثل قضية تحريف القرآن على أنه متواتر ومحفوظ من الزيادة والنقصان، كما دلس فى قضية المرأة ومكانتها فى الإسلام، وكذب فى قضية حديث الغرانيق، وحقيقة نوبات الصرع التى كانت تنتاب محمد، هل المنهج العلمى الذى ارتضاه هيكل لنفسه يفرض عليه أن القرآن هو معجزة محمد الكبرى؟
يعيب المالكى على محمد حسين هيكل بما هو أكثر، يقول: اتسمت حياة محمد بترقيع الأخبار وتشويشها، مما يدل على أن الكاتب لم يقو على تصوير الأحداث، أو أنه عمد إلى تشويشها كما فى واقعة بنى قريظة والتى يبررها بطريقة مخجلة لا تتسم بالشجاعة والعقلانية ولا تتناسب مع المنهج العلمى الموضوعى الذى يتبناه.
يمكن أن نضع رؤية الأزهر فى كتاب «حياة محمد» جانبًا، فهى فى النهاية تقف على الحياد نوعًا ما، تعلى من قيمته وتأخذ عليه بعض المآخذ، وهى صيغة راقية ومحترمة، فلا يمكن أن يخون الأزهر نفسه، ويذهب فى مدح الكتاب إلى طريق لا يقتنع به أو يركن إليه.
ما لفت انتباهى- وأعتقد أنه لفت انتباهكم أيضًا- حالة التطرف على الجانبين، السلفى والعلمانى.
فكما أن هناك تطرفًا سلفيًا رفض ما فعله محمد حسين هيكل، وكل من كتب من الكتاب العلمانيين، هناك أيضًا تطرف علمانى يرفض هذه الكتابات، ولكل تطرف دوافعه وأسبابه ومنطقه والأرضية التى يتحرك عليها.
قد تتعجب من قولى إن هناك تطرفًا علمانيًا، على أساس أن العلمانية من المفروض أن تعلى من شأن حرية الرأى، وتنحاز إلى أن يعبر الناس عما يرونه صحيحًا، فكيف تكون متطرفة ورافضة لاجتهاد أحدهم حتى لو كان مخالفًا لما تذهب إليه؟
للأسف الشديد هذه آفة من آفات حياتنا الفكرية والثقافية فى العالمين العربى والإسلامى، صحيح أن تطرف العلمانية يأتى كرد مباشر على تطرف التيارات الإسلامية، لكنه فى النهاية تطرف، ما كان لأصحابه أن يقعوا فيه.
السؤال الأهم الآن، وبعيدًا عن منطق الذين رفضوا الكتاب، فمن حقهم أن يقولوا ما يريدون، لكن السؤال الأهم هو: كيف اجتمعت السلفية والعلمانية على رفض كتاب محمد حسين هيكل «حياة محمد»؟ كيف حلا لأصحاب الأفكار الليبرالية أن يقفوا فى نفس الخندق مع أصحاب الأفكار السلفية فيطعنوا فى كتاب، فى النهاية له ما له وعليه ما عليه؟
سبب ذلك فيما أعتقد ودون فذلكة، هو أن كتاب محمد حسين هيكل كان يسعى خلف الحق، والحق وحده، وهو أمر لا يعرفه مفكرونا سواء الذين يرفعون راية السلفية أو هؤلاء الذين يعلون من قيمة العلمانية.. فجميعهم فى التطرف سواء.. وأنت بالنسبة لهم لست إلا خصمًا ما دمت لا تتفق معهم أو تتوافق مع هواهم.