رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الرسول فى مصر «9»

محمد الباز يكتب: «حياة محمد».. السيرة الذاتية لكتاب السيرة النبوية الأعظم

محمد الباز
محمد الباز

أعرف جيدًا أنك تعرف كتاب «حياة محمد» للكاتب الكبير الدكتور محمد حسين هيكل.
وأعرف أنك تقدر لصاحبه أنه صاحب المحاولة الأهم والأكبر لكتابة سيرة كاملة للنبى، صلى الله عليه وسلم، بمنهج علمى يناسب العصر، بعد أن ظلت السيرة أسيرة لسرد تاريخى تراثى، لا يقدم قراءة لما جرى، ولا يبذل جهدًا لفهم ما ظهر أو توارى.
وأعرف أن لديك علمًا بحال هذا الكتاب الذى يمثل مرجعًا أساسيًا لكل من كتبوا عن النبى، صلى الله عليه وسلم، بعده، لا أقصد الكُتّاب المصريين والعرب فقط، ولكن كل من حاول أن يلج إلى حياة النبى، صلى الله عليه وسلم، فى أى مكان من العالم، أخذ من «حياة محمد» دليلًا، البعض سار على نفس طريقه، والبعض سلك الطريق المقابل تمامًا.
وأعرف كذلك أنك على يقين أن هناك من مدحه وهناك من أخذ عليه ما قدمه، دون أن يهز ذلك فضل ما فعله، فرغم أن الكتاب صدر فى المرة الأولى فى العام ١٩٣٥ إلا أنه وحتى الآن لم يستطع أى كتاب آخر أن يزيحه من على عرش الكتابات العظيمة عن النبى، صلى الله عليه وسلم.
لكن ما يجب أن نعرفه جميعًا الآن هو كيف وصل محمد حسين هيكل، دارس الحقوق والسياسى الشهير، إلى محطة «حياة محمد»؟
الأمر يحتاج منّا إلى أن نعود سنوات طويلة إلى الوراء، تحديدًا إلى العام ١٨٨٨ حيث ولد محمد حسين هيكل فى قرية كفر غنام بمحافظة الدقهلية، هناك حفظ القرآن فى سن مبكرة، تقريبًا أنجز ذلك وعمره لم يتجاوز السابعة.
فى عامه السابع، وصل إلى القاهرة مع أهله ليدخل مدرسة الجمالية الابتدائية ومنها إلى المدرسة الخديوية الثانوية التى انتقل منها إلى مدرسة الحقوق الخديوية، ووقتها دخل عالم قراءة الأدب العربى القديم، فأخذ من أبى فرج الأصفهانى، صاحب كتاب «الأغانى»، والجاحظ، صاحب كتاب «البيان والتبيين» صديقين له، كما ترك نفسه تمامًا بين صفحات كُتب الأدب الإنجليزى ينهل منها بما لا يتصوره أحد.
النقلة الكبرى فى حياة محمد حسين هيكل كانت عندما سافر إلى فرنسا فى العام ١٩٠٩ على نفقته الخاصة، ليحصل على الدكتوراه فى القانون ويعود فى العام ١٩١٢.
فى فرنسا حدث ما صاغ شخصيته وحدد منهجه الفكرى والفلسفى فى الحياة، ففى البداية كان مبهورًا بفرنسا وحضارتها، وهو ما دفعه إلى أن يكتب مجموعة من المقالات أشاد فيها بالتقدم الغربى الهائل مقارنة بالتخلف العربى الهائل الذى كان يعرفه جيدًا، وجد هيكل نفسه أسيرًا لكُتّاب فرنسا وأدبائها ومفكريها.
لكنه استيقظ على حقيقة أمسك بها جيدًا، وهى إذا كانت فرنسا بنت الحضارة الغربية تملك كل هذا التقدم والرقى والتحضر، فلماذا نجد كل هذه الوحشية التى مارستها فرنسا والغرب كله فى حروب وجهت بالأساس إلى الإنسانية كلها، وليس إلى دول بعينها، فتحول العالم إلى قتلة ومشردين.
أدرك محمد حسين هيكل أن الذهب الذى رآه يلمع ليس ذهبًا، فأعاد التفكير فيما بين يديه، وتأكد أن الحضارة العربية ليست سيئة، هى كذلك لأن هناك من خطط لأن تكون على حالها، وعليه فليس أمامه إلا أن يبحث ليصل إلى الحقيقة بنفسه.
بعد عودته سار فى طريقين متوازيين، عمل محاميًا وكاتبًا فى الصحف، واقترب وقتها من ثلاثة شكلوا أفكاره ووجدانه أيضًا- إذا جاز لنا أن نقول ذلك- وهم أحمد لطفى السيد والإمام محمد عبده وقاسم أمين، وكل واحد من هؤلاء له دوره ومكانه ومكانته فى الحياة العامة المصرية.
فى سنوات قليلة لمع اسم محمد حسين هيكل، أصبح عضوًا فى لجنة الثلاثين التى وضعت دستور ١٩٢٣، وهو أول دستور صدر فى مصر المستقلة بعد تصريح ٢٨ فبراير ١٩٢٢، وعندما أصدر حزب الأحرار الدستوريين- الذى كان يوصف بأنه حزب الأعيان- جريدة «السياسة الأسبوعية»، الناطقة بلسان الحزب، اختاروه ليكون رئيسًا لتحريرها، وكان ذلك فى العام ١٩٢٦.
فى العام ١٩٣٨ أصبح محمد حسين هيكل وزيرًا للمعارف فى حكومة محمد محمود، وكان قد أصدر كتابه «حياة محمد» قبلها بثلاث سنوات.
الآن يمكننا أن نقتحم الحصن الحصين لهذا الكتاب، والسؤال: لماذا يهتم رجل قانونى وصحفى وسياسى بمجال الكتابات الإسلامية؟ ولماذا يتصدى لكتابة تاريخ النبى، صلى الله عليه وسلم؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال، وهى إجابة متشعبة فيها قليل من الحقيقة وكثير من الشكوك، من المهم أن نعرف ما الذى فعله محمد حسين هيكل على وجه الدقة فى مشروعه الذى هو الأهم بالفعل فى مشروعات كتابة السيرة النبوية.
فى طبعته الأولى كتب الشيخ محمد مصطفى المراغى، شيخ الأزهر وقتها، مقدمة مهمة يشرح فيها ما الذى يريده محمد حسين هيكل، وما الذى شعر هو به بعد قراءته أجزاء من الكتاب، فعلى ما يبدو أنه كتب المقدمة دون أن يقرأ الكتاب كله.
يقول الشيخ المراغى: سيرة محمد صلوات الله عليه وعلى آله- كسائر العظماء- أضيف إليها ما ليس منها، إمّا عن حب وهوى وحسن قصد، أو عن سوء قصد وحقد، غير أنها تمتاز عن سير العظماء جميعهم بأن منها شيئًا كثيرًا ضمه الوحى الإلهى وضمن حفظه القرآن المطهر، وشيئًا كثيرًا روى على لسان الثقات من المحدثين، وعلى هذه الأسس الصحيحة يجب أن تبنى السيرة، وأن يستنبط العلماء منها حكمها وأسرارها ودقائقها، وأن تحلل التحليل العلمى النزيه، ملاحظًا فى ذلك الوسط وحال البيئة ونواحيها المختلفة من عقائد ونظم وعادات.
هذه نظرة الشيخ المراغى الخاصة، التى لا ينكر على هامشها أن هناك الكثير مما دخل على السيرة النبوية وهو ليس منها، وهو اعتراف أعتقد أن كثيرين لا يجرؤون على التصريح به الآن، ويبدو أن رغبته فى كتابة السيرة النبوية بطريقة علمية حديثة قد وجد بعضًا منه فيما كتبه هيكل.
يصل المراغى إلى هيكل، فيقول عنه: وقد أخرج الدكتور هيكل للناس كتابه «حياة محمد» فى سيرة محمد، ويسر لى أن أطلع على جزء منه قبل إتمام طبعه، والدكتور هيكل معروف لقراء اللغة العربية، غنى بآثاره فيها عن التعريف، وقد درس القانون واطلع على المنطق والفلسفة، ومكنته ظروفه وطبيعة عمله من الاتصال بالثقافة القديمة والثقافة الحديثة، وأوفى منهما على حظ عظيم، وناظر وجادل وهجم ودافع فى المعتقدات والآراء وقواعد الاجتماع وفى السياسة وغيرها، فنضج عقله وكمل علمه واتسع اطلاعه وامتد أفقه، فأصبح يدافع عن آرائه بمنطق قوى وحجج باهرة وأسلوب اختص به لا تخفى نسبته إليه.
هذه شهادة المراغى فى الدكتور هيكل، أما شهادته فى الكتاب نفسه، فأجملها بقوله: سيدرك الناس ما فى الكتاب من حسنات، وسيستمتعون بلذة نتاج الفكر الذى تهديه الأسانيد الصحيحة، فالكتاب عقد منضد، وسلسلة متينة محكمة الحلقات، أبدع كاتبها فى بيان الأسباب والأغراض والحكم بيانًا قويًا واضحًا، يجعل من يقرأ مطمئن النفس رضى القلب، يستمتع بما يقرأ ويثلج صدره ببرد اليقين، فيملك عليه أمره، ويجبره على متابعة القراءة حتى يوفى على آخر ما بيده من البحث.
الأمر عند محمد حسين هيكل كان واضحًا.
فلديه الدافع الذى حركه ناحية النبى محمد، صلى الله عليه وسلم.
يقول عن ذلك: محمد عليه الصلاة والسلام بهذا الاسم الكريم تنطق ملايين الشفاه، وله تهتز ملايين القلوب كل يوم مرات، وهذه الشفاه والقلوب به تنطق وله تهتز منذ أربعمائة وألف سنة إلا خمسين، وبهذا الاسم الكريم ستنطق ملايين الشفاه وتهتز ملايين القلوب إلى يوم الدين، فإذا كان الفجر من كل يوم وتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، أهاب المؤذن بالناس أن الصلاة خير من النوم، ودعاهم إلى السجود لله والصلاة على رسوله، فاستجاب له الألوف والملايين فى مختلف أنحاء المعمورة يحيون بالصلاة رحمة الله وفضله متجليين فى مطلع كل نهار، وإذا كانت الظهيرة وزالت الشمس أهاب المؤذن بالناس لصلاة الظهر، ثم لصلاة العصر فالمغرب فالعشاء، وفى كل واحدة من هذه الصلوات يذكر المسلمون محمدًا عبد الله ونبيه ورسوله فى ضراعة وخشية وإنابة، وهم فيما بين الصلوات الخمس ما يكادون يسمعون اسمه حتى تجف قلوبهم بذكر الله وبذكر مصطفاه، كذلك كانوا وسيكونون حتى يظهر الله الدين القيم ويتم نعمته على الناس أجمعين.
من أجل النبى كتب محمد حسين هيكل إذن، لكنه وهو يعمل كانت لديه خلفيات عديدة عن كتابات الغرب عن النبى محمد، وكذلك كتابات المسلمين الأولين، وهؤلاء الذين ساروا على طريقهم دون تجديد، فتحولت سيرة النبى على أيديهم جميعًا ما بين حياة جامدة لا روح فيها ولا حياة، وسيرة مستهدفة يبحث من يكتب فيها عن الثغرات حتى ينفذ منها إلى ما يريده، وفى الحالتين.. الخسارة تلحق بسيرة النبى وبالمسلمين جميعًا من بعده.
سأل هيكل: كيف فكرت فى وضع هذا الكتاب؟
وأجاب هو دون أن يشوقنا إلى ما لديه: أتاحت لى ظروف حياتى العملية أن أرى ذلك كله فى مختلف بلاد الشرق الإسلامى، بل فى البلاد الإسلامية كلها، وأن أتبين ما يقصد إليه من القضاء على الروح المعنوية فى هذه البلاد بالقضاء على حرية الرأى وحرية البحث ابتغاء الحقيقة، وقد شعرت بأن علىّ واجبًا أقوم به فى هذا الموضوع لإفساد الغاية التى ترمى هذه الخطة إليها، والتى تضر الإنسانية كلها ولا يقف ضررها عند الإسلام والشرق، وأى أذى يصيب الإنسانية أكبر من العقم والجمود، يصيبان نصفها الأكبر والأعرق فى الحضارة على حقب التاريخ؟ ولذلك فكرت فى هذا وأطلت التفكير، وهدانى تفكيرى آخر الأمر إلى دراسة حياة محمد صاحب الرسالة الإسلامية، والوصول إلى هدف مطاعن المسيحية من ناحية، وجمود الجامدين من المسلمين من الناحية الأخرى، على أن تكون دراسة علمية على الطريقة الغربية الحديثة، خالصة لوجه الحق، ولوجه الحق وحده.
كانت هذه تحديدًا الصيغة التى كتب بها محمد حسين هيكل إهداء كتابه.
لم يحدد شخصًا بعينه يسترضيه، ولم يقصد جهة بعينها يبغى نفعها.
كتب نصًا: إهداء إلى الذين يبتغون الحق لوجه الحق وحده.
وكأنه كان يعرف أن هناك فئات شتى ستعترض طريقه، وتحول بينه وبين الناس، وتمنعه من أن يصل إليهم، مدعين أنهم يعملون من أجل الحق، لكنه الحق من وجهة نظرهم، وليس الحق لذاته المجردة، وهو أمر فى الغالب لا يستطيعه إلا من منحهم الله القدرة على الصبر والإنصاف وسعة الصدر قبل سعة الأفق.
أشعر أنك تريد الآن أن تعرف كيف عمل محمد حسين هيكل على كتابه؟
يجيبنى ويجيبك بقوله: بدأت أراجع تاريخ محمد، وأعيد النظر فى سيرة ابن هشام وطبقات ابن سعد ومغازى الواقدى، وعدت إلى كتاب سيد أمير على «روح الإسلام»، ثم حرصت على أن أقرأ ما كتب بعض المستشرقين، فقرات كتاب «إميل درمنجم» وكتاب «واشنطن إرفنج»، ثم انتهزت فرصة وجودى بالأقصر فى شتاء سنة ١٩٣٢ وبدأت أكتب، وقد ترددت يومئذ فى أن أجعل البحث الذى أطالع قرائى به من وضعى أنا، خيفة ما قد يقوم به أنصار الجمود والمؤمنون بالخرافات من ضجة تفسد علىّ ما أريد، لكن ما لقيته من إقبال وتشجيع من طائفة شيوخ المعاهد، وما أبدى لى بعضهم من ملاحظات تدل على العناية بالبحث الذى أقوم به، جعلنى أفكر تفكيرًا جديًا فى إنفاذ ما اعتزمت من كتابة حياة محمد على الطريقة العلمية الصحيحة، كتابة مفصلة، ودعانى إلى التفكير فى أمثل الوسائل لتمحيص السيرة تمحيصًا علميًا جهد ما أستطيع.
يكشف محمد حسين هيكل عن منهجه وأسلوبه العلمى الذى تتبع به حياة النبى محمد، يقول: لقد تبنيت أن أصدق مرجع للسيرة إنما هو القرآن الكريم، فإن فيه إشارة إلى كل حادث من حياة النبى العربى يتخذها الباحث منارًا يهتدى به فى بحثه، ويمحص على ضيائه ما ورد فى كتب السنة، وما جاء فى كتب السيرة المختلفة، وأردت جاهدًا أن أقف على كل ما ورد فى القرآن متصلًا بحياة النبى، فإذا معونة صادقة فى هذا الباب يقدمها إلىّ الأستاذ أحمد لطفى السيد، الموظف بدار الكتب المصرية، وهى مجموعة وافية مبوبة لآيات القرآن المتصلة بحياة من أوحى الكتاب الكريم إليه، وأخذت أدقق فى هذه الآيات، فرأيت أن لا بد من الوقوف على أسباب نزولها وأوقات هذا النزول ومناسباته، وأعترف بأنى- على ما بذلت من جهد- لم أوفق لكل ما أردت منه، فكتب التفسير تشير أحيانا إليه وتهمل هذه الإشارة فى أكثر الأحايين، ثم إن كتاب «أسباب النزول» للواحدى، وكتاب «الناسخ والمنسوخ» لابن سلامة، إنما تناولا هذا الموضوع الجليل الجدير بكل تدقيق واستيفاء تناولًا موجزًا، على أننى وقفت فيهما وفيما رجعت إليه من كتب التفسير على مسائل عدة استطعت أن أمحص بها ما ورد فى كتب السيرة، ووجدت فيهما وفى كتب التفسير نفسها أشياء جديرة بمراجعة العلماء المتبحرين فى علوم الكتاب والسُنة وتحقيقهم إياها من جديد تحقيقًا دقيقًا.
يكشف محمد حسين هيكل عن نقطة مهمة جدًا فى مسيرة بحثه وراء النبى، صلى الله عليه وسلم.
يقول: كنت كلما ازددت توسعًا فى البحث أرى مسائل تنجم أمامى وتستدعى التفكير ومزيدًا من البحث لحلها، وكما عاونتنى كتب السر وكتب التفسير فى الاهتداء إلى غاية من تفكيرى أطمئن إليها، عاونتنى كتب المستشرقين فى الاهتداء إلى غاية أطمئن إليها، على أننى رأيتنى مضطرًا فى كل المواقف لأقصر بحثى فى حدود حياة محمد نفسه، ما لم أضطر إلى تناول مسائل أخرى متصلة لهذا البحث اضطرارًا، ولو أننى أردت أن أبحث كل ما اتصل بهذه الحياة الفياضة العظيمة، لاحتاج الأمر إلى وضع مجلدات عدة فى حجم هذا الكتاب- تتجاوز صفحات «حياة محمد» الـ٥٠٠ صفحة.
ينبه محمد حسين هيكل قراء كتابه إلى ما يعتقد أنه أمر مهم جدًا.
يقول: إذا طرحت جانبًا أولئك المتعصبين الحمقى الذين جعلوا النيل من محمد دأبهم كالمبشرين وأشباههم، فإنك واجد هذا الإجلال للعظمة والإيمان بقوتها فى كتب العلماء المستشرقين واضحين جليّين.
هنا يظهر لنا توماس كارليل مرة أخرى.
هو نفسه الذى ألهم عباس العقاد كتابه «عبقرية محمد» بكتابه «الأبطال».
وهو نفسه الذى يشير إليه محمد حسين هيكل.
يقول: عقد كارليل فى كتابه «الأبطال» فصلًا عن محمد صور فيه الجذوة الإلهية المقدسة التى أوحت إلى محمد ما أوحت من صور العظمة فى قوتها، وموير، وإرفنج، وسبرنجر، وفيل، وغيرهم من المستشرقين والعلماء قد صور كل واحد منهم عظمة محمد تصويرًا قويا، وإن وقف هذا أو ذاك منهم عند مسائل اعتبرها مآخذ على صاحب الرسالة الإسلامية، لغير شىء إلا أنه لم يمتحنها ولم يمحصها التمحيص العلمى الدقيق، لأنه اعتمد فيها على ما ورد فى بعض كتب السيرة أو كتب التفسير من الروايات المضطربة، متناسيًا أن أول كتب السيرة إنما كتب بعد قرنين من عصر محمد، دست أثناءهما فى سيرته وفى تعاليمه إسرائيليات كثيرة، ووضعت أثناءهما ألوف الأحاديث المكذوبة، ومع أن المستشرقين يقررون هذه الحقيقة، تراهم لا يأبون مع ذلك تناسيها ليقرروا أمورًا يعتبرونها صحيحة، مع أن أقل التمحيص ينفيها، من ذلك مسألة الغرانيق ومسألة زيد وزينب، ومسألة أزواج النبى، مما أتيح لى امتحانه وتمحيصه فى هذا الكتاب.
عندما تقرأ كتاب «حياة محمد» ستجد أن مؤلفه محمد حسين هيكل يقوم برياضة ذهنية هائلة، خاضها من أجل الوصول إلى ما جرى فى حياة النبى، صلى الله عليه وسلم، بعيدًا عما يراه الآخرون حقًا، أو ما يتعاملون معه على أنه باطل، ولأنه فعل ذلك فإن كتابه لم يُرض أحدًا.
صحيح أن العامة أقبلوا عليه، وشكل الاهتمام به طوفانًا جماهيريًا جرف فى طريقه كل الاعتراضات عليه، إلا أن هناك من يضيق بهذا الكتاب حتى الآن، بل ويعتبر أن النقائص التى تلحق به أكبر بكثير من الفوائد التى جناها المسلمون من ورائه.
قد لا يكون هذا الجدل مهمًا بالنسبة لك، ربما لأنك لم تقرأ الكتاب من الأساس، وعليه فلن يشغلك مَنْ مدحه ومَنْ ذمه، لكننى أعتقد أن قراءة الكتاب الآن مهمة، يمكن أن تحصل عليه بسهولة، إن لم يكن فى نسخته الورقية، ففى نسخته الإلكترونية.. وبعد أن تقرأه، سأرهقك بعض الشىء معى، لتقرأ ما قالوه عنه.