رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى السينما والدراما.. المحاماة فى الدراما بين العبقرية والهزل



ما هى الصورة التى يتخيلها الناس عن المحامى؟.. فى أزمنة سابقة كان المحامى له قيمته فى عيون الناس، وما ذلك إلا لأنه كانت له قيمته فى عين نفسه، فكنت تراه أديبًا، وفيلسوفًا، ولغويًا، وفقيهًا، وخطيبًا مفوهًا، وسياسيًا حصيفًا، وبصفة عامة كان يأخذ من كل علم سببًا، لذلك كانت المحاماة تتربع على القمة، فما قيمة المحاماة مهما كان رونقها؟ ما قيمة المحاماة إلا من قيمة المحامين، وعندما هان المحامون فى معارفهم هانت المحاماة فى عيون الناس، فأصبح معظمنا يراه ظالمًا، يُعين الظالم على ظلمه، آكلًا للحقوق، يستغل ثغرات القانون ليحصل على البراءة لموكله المجرم، وقد بدأ هذا التصور يظهر فى الدراما المصرية منذ الستينيات، حيث كنت تجد قلة من الأفلام التى ظهر فيها المحامى بصورة فاسدة أو كارتونية، مثل ذلك المحامى الفاشل فى فيلم «٣٠ يوم فى السجن»، ولكن تلك الصورة المهتزة لم تكن تظهر إلا فى الأفلام الكوميدية التى تبحث عن الضحك ليس إلا.


ويزداد هذا النمط من الأفلام منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضى، رغم أن المحاماة فى تلك الفترة كانت زاخرة بأفذاذ وعباقرة قلما يجود الزمان بهم، ولكن كانت هناك ثلة من أواخر الخريجين الجدد من كليات الحقوق قد بدأت تزاحمهم على مهل، حيث لم يجدوا عملًا آخر يقبلهم، وأخذ هؤلاء يمارسون ضعفهم التعليمى، ونضوب مواردهم الفكرية والثقافية، ويسلكون طرقًا مستهجنة لكسب العيش، حينها لم يكن أحد يشعر بهم لأنهم كانوا قلة، ولكن القلة مع الزمن أصبحت كثرة، ثم أمست هى الغالبة، أو قل المتغلبة، فظهرت فى أوائل الثمانينيات شخصية المحامى حسن سبانخ فى فيلم «الأفوكاتو»، وقد أداها الفنان عادل إمام بشكل هزلى، ويبدو أن المؤلف الذى كتب هذا الفيلم ورسم شخصية هذا المحامى لم يكن لديه أى قدر من المعرفة بالنظام القضائى المصرى، لذلك كانت شخصية المحامى حتى فى صورتها الكوميدية ليس فيها أى ملمح من ملامح المحامى الحقيقى، سواء كان محاميًا ضعيفًا أو متمكنًا، وقد تحجج بعضهم بأن هذا الفيلم كوميدى، ولذلك فإن رسم الشخصيات قد تكون بينه وبين الحقيقة مسافة كبيرة لأن الهدف هو الإضحاك والسخرية من نظام العدالة، ولكن هذا غير صحيح، فحينما قامت فاتن حمامة بأداء شخصية المحامية فى فيلم «الأستاذة فاطمة» كانت تؤدى دورها كمحامية بشكل كوميدى فى بعض الأحيان ولكنه أقرب إلى الواقع بلا ابتذال ولا إسفاف.
وسأترك هذا الركام من الجهالة الدرامية التى لحقت بالمحاماة حينًا من الدهر، ولن أتحدث عن أن معظم كتّاب الدراما لم يكونوا على دراية بطبيعة النظام القضائى فى مصر، أو طرق المرافعات، أو طريقة القضاة والمحامين فى توجيه الأسئلة للشهود، حتى إننى كتبت ذات مرة أن الأنظمة القضائية فى العالم هى: نظام القضاء الأنجلو سكسونى، وهو المتبع فى أمريكا وإنجلترا وعدد كبير من دول العالم، والنظام الرومانى اللاتينى المتبع فى فرنسا ومصر وعدد كبير من دول العالم، ثم النظام القضائى الدرامى المتبع فى السينما والمسلسلات المصرية، وهذا النظام القضائى الدرامى لا مثيل له فى أى نظام فى العالم، ولا علاقة له أيضًا بأى نظام قضائى آخر، إذ هو فى الغالب تشكيلة خيالية كتبها بعض المؤلفين فى زمن قديم، فاتبعها باقى كتّاب الدراما بلا أى تعمق أو فهم.
نعم كان كثير من الأخطاء الساذجة الخاصة بشخصية المحامى المترافع تُرتكب فى السينما المصرية القديمة، إلا أن ذلك كان لدواعى الحبكة الدرامية، أو التشويق، ولم تكن المسافات تبتعد كثيرًا عن الواقع الحقيقى وقتئذ، ولكن من خلال تاريخ السينما والمسلسلات التليفزيونية لم يبرع فى أداء شخصية المحامى الفذ المبدع على وجهه الحقيقى إلا المحامى «عادل بك» فى فيلم «هذا جناه أبى» الذى أداه أستاذ الأساتذة زكى رستم، والعمل الآخر هو «أوبرا عايدة» الذى أدى فيه دور المحامى الفنان الكبير يحيى الفخرانى.
أما عن دور المحامى «عادل بك» الذى أدى دوره باقتدار الفنان العبقرى زكى رستم، عليه رحمة الله، وكان مما عرفته فى بداية حياتى المهنية أن عددًا من كبار المحامين فى مصر شاهد هذا الفيلم فى حفل الافتتاح، وكان منهم «محمود بك فهمى جندية» نقيب المحامين وقتئذ، ومكرم عبيد باشا، وكلاهما تمت دعوته من الفنان زكى رستم بسبب أنه استشار مكرم عبيد فى أداء شخصية المحامى، كما أن صلات قوية كانت تربطه ونقيب المحامين «فهمى جندية بك» وقد كان أحد تلاميذ المدارس الثانوية يحضر أيضًا ذات الحفل ويجلس فى مقعده يشاهد المحامى «زكى رستم» ويراقب كبار المحامين الجالسين فى البنوار فى صالة السينما، ووصل بهذا التلميذ الانفعال حد البكاء وهو يشاهد المرافعة الختامية للمحامى، وقد كان هذا الفيلم، مع شخصية زكى رستم الذى أدى دور المحامى، السبب الرئيسى الذى غيّر فيه هذا التلميذ طموحاته، فالتحق بكلية الحقوق، ثم أصبح فى مستقبل الأيام أحمد الخواجة، نقيب المحامين، وأحد أكبر المحامين فى مصر والعالم العربى، وقد روى لى النقيب أحمد الخواجة تلك القصة وأنا فى بداية حياتى المهنية، ناصحًا إياى بأن أشاهد زكى رستم وهو يترافع كى أتعلم أصول المرافعة على حق، وقال: بعد أن انتهى زكى رستم من مرافعته ضجت قاعة السينما بالتصفيق، وقام مكرم عبيد باشا يصفق بحرارة، فكتب محمد التابعى فى مجلة «آخر ساعة» عنوانًا براقًا هو: «الباشا يصفق للباشا».
وحينما شاهدت هذا الفيلم غابت عنى شخصية زكى رستم تمامًا، ولم أر إلا المحامى عادل بك، رأيته وهو فى قمة الحقارة والدناءة، ثم رأيته وهو فى قمة الرجولة والكرامة والشرف، رأيته وقد اعتدى على فتاة وهو فى مقتبل حياته، وكانت ثمرة هذا الاعتداء بنت، فتهرّب من نسبها بكل خسة، فماتت الفتاة بحسرتها وتركت ابنتها يُربيها من أهل الخير امرأة طيبة، ورجل كريم، وتكبر الابنة، وتتكرر القصة معها، فيعتدى عليها شاب أخرق، وتحمل الفتاة المسكينة من جراء هذا الاعتداء، فيتهرب الشاب الأخرق، فلم يكن أمامها إلا أن ترفع دعوى أمام القضاء الشرعى بإثبات النسب، ولا يكون أمام والد الشاب الأخرق إلا أن يلجأ لأحد أكبر المحامين فى مصر لكى يوكله من أجل المرافعة عن ابنه، وكان هذا المحامى هو عادل بك «زكى رستم»!!.
ولك أن تشاهد عادل بك لكى تعرف كيف يترافع المحامى، وإذا كان التاريخ يذكر أن إبراهيم الهلباوى كان هو أبرع المحامين المترافعين فى تاريخ مصر الحديث، فإن أداء زكى رستم كان يتفوق عليه، إذ لا أظن أن أحدًا بلغ هذا المبلغ من قوة الحجة، ونصاعة البيان، والقدرة على التأثير، نعم انهال المحامى عادل بك على الفتاة المسكينة، وكال لها الاتهامات، وأفقدها كل تعاطف وهى تقف مغلوبة على أمرها، وأعترِف لكم بأننى كرهت هذا المحامى كراهية كبيرة، ثم كرهت زكى رستم نفسه، ولكن المعجز فى الأمر أن هذا المحامى اكتشف الحقيقة، وعرف أن تلك الفتاة المسكينة هى ابنته التى لم يرها من قبل، وحينها تنحى عن القضية، ثم إذا به يقف أمام المحكمة ليترافع مرافعة تاريخية، فيُدين نفسه، ويدافع عن تلك الفتاة المسكينة وهو يرجوها أن تصفح عنه، ويصف نفسه بالحقارة والخسة، كل ذلك بأداء مبهر يعجز بيانى عن وصفه، أو توصيف قدرته على التأثير، فهو ينفعل فى موضع الانفعال، فيعلو صوته بحرفية شديدة بحيث لا تمجه الآذان، ويهدأ وهو يأسى على ما فات، ثم يغالب دموعًا كادت أن تنسال من عينيه، وربى إن هذه المرافعة من أروع المرافعات على قِصر وقتها، ولكننى لا أستطيع أن أقول إلا إن الذى أداها كان محاميًا بالفعل، إذ لا يمكن بأى حال من الأحوال أن يصل ضبط المرافعة إلى هذا الحد من الإتقان، إلا من خلال نص رفيع صاغ مرافعة بليغة، أعطت للفنان مساحة كاملة لكى يبدع، ويقينى أن مشهد المرافعة الأخيرة هو من أعلى المشاهد التى قدمها زكى رستم فى حياته، كما أن ضبط العمل من الناحية القانونية كان له الدور الأكبر فى تلك البراعة، إذ إن مؤلف هذا الفيلم هو الأديب يوسف جوهر الذى تخرج فى كلية الحقوق وعمل فى المحاماة فترة فى بداية حياته.
ولن أترك المحامى فى الدراما عند حد عمل تم تقديمه عام ١٩٤٥، ولكن هناك عملًا آخر، هو مسلسل «أوبرا عايدة» الذى شاهدناه عام ٢٠٠٠، وقد أعادنى هذا المسلسل لمشاهدة الدراما التليفزيونية بعد أن انقطعت عنها سنوات، وكان يمارس فيه الفنان المتربع على عرش الإجادة يحيى الفخرانى دور المحامى «سيد أوبرا» ولأننى من المعجبين بهذا الفنان وبأعماله، ولأنه فى المسلسل كان يؤدى دور المحامى فى قضية كانت قد شغلت الرأى العام فترة، هى قضية الممرضة عايدة التى اتُهمت بقتل بعض المرضى بما يُسمى «القتل الرحيم»، لذلك أقبلت على مشاهدة هذا العمل، إلا أننى لم أره مثل المشاهدين العاديين، ولكننى كنت أراقب زميلى المحامى «سيد أوبرا» وهو يعود للمحاماة بعد أن عاش فترة إحباط وانقطاع عنها، يعود ليترافع عن فتاة طالتها الاتهامات، ووقف الرأى العام ضدها، رأيت زميلى الأستاذ أوبرا والحياة تعود إليه وهو يدخل إلى المحكمة، وكـأنما أنفاس المهنة التى انقطعت عنه قد عادت إليه من جديد لتبعث فيه محاميًا جديدًا، نابهًا، زكيًا، لمّاحًا، سريع البديهة، قوى الحجة، وقد أسعدنى أن المؤلف ضبط النص القانونى مع النص الدرامى، لذلك كانت المرافعة الأخيرة للمحامى سيد أوبرا فى الحلقة الأخيرة مليئة بالأفكار القانونية التى تم عرضها ببساطة لا تستغلق على المشاهد العادى، بل إن المؤلف استعان فى نصه ببعض الطرائف القضائية التى تروى عن مكرم عبيد باشا، وقد أجراها على لسان يحيى الفخرانى الذى أداها ببساطة وتلقائية خفة ظل غير عادية، وأغلب الظن أن الفنان الفخرانى، أو المؤلف، أو كليهما، استشارا محامين لكى يخرج مشهد المرافعة الأخيرة بهذه الدقة، وإذا كان أعظم ما يكتسبه المحامى وهو يترافع ما نسميه «الحضور» أو الكاريزما، أو القبول، وهى من الأمور اللازمة للمترافع كى يترك تأثيرًا كبيرًا على القضاة، فإن أداء الفخرانى فى هذه المرافعة كان هو القبول ذاته، وكأن الله أعطاه فى هذا المشهد دون غيره كاريزما عالية جدًا، مع تميز فى الأداء اللغوى، وقدرته على تنويع صوته أثناء المرافعة، كل هذا جعل من يحيى الفخرانى محاميًا حقيقيًا، وأظنه بهذا الدور استطاع أن يضرب الصورة الهزلية للمحامى فى مقتل، ويستعيد لنا من خلال الدراما صورة المحامى المبدع، الذى قد يتوه به الطريق فى بعض حياته، ولكنه يعود حتمًا ليتلمس طريق الحق، فيسلكه غير هيَّاب، وهكذا هو المحامى.