رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«تسلية في الحظر».. ننشر فصلًا من رواية «أختي قاتلة متسلسلة»

 أويينكان برايزوايت
أويينكان برايزوايت

تعد فترة الحظر المنزلي الذي يشهدها العالم بأسره وليس مصر فقط٬ فرصة ذهبية للقراءة٬ ورفع الأتربة والغبار عن مكتباتنا٬ وللتشجيع علي القراءة الــ"الدستور" تنشر فصلا من رواية الكاتبة النيجيرية أويينكان برايزوايت٬ "أختي قاتلة متسلسلة". وكانت الرواية قد وصلت للقائمة الطويلة لجائزة البوكر العالمية للعام المنصرم 2019وصدرت في نسختها العربية عن دار العربي للنشر والتوزيع٬ بترجمة لـ محمد عثمان خليفة.

المُبيِّض
أُراهنُكَ أنك لم تكُن تعرف أن المُبيِّض يقضي على رائحة الدَّم. أغلبكُم يستخدمه كمُنتَج مُسلَّم به، مُفترضين أن من البديهي أن يقضي على كل شيء، ويُنظِّف كل شيء، ويُهملون قراءة قائمة المُكوِّنات في المُلصق على ظهر العبوة، ولا يُبالون بالعودة إلى أيِّ سطح نظَّفوه بالمُنتَج قبل قليل ليُلقوا نظرة أخرى عن كَثَب. ولكن عليك أن تعرف أن المُبيِّض يُعقِّم، ولكنه غير قادر على القضاء التَّام على بقايا كل شيء، ولذلك فأنا لا أستخدمه إلا بعد أن أكون قد خلَّصت الحمَّام من كل آثار الحياة، والموت.

يتَّضح لكل عين أننا جدَّدنا الغُرفة مُؤخَّرًا. لا تزال مُحتفظة بتلك الطَّلَّة الجديدة، خاصة أنها قد فرغت للتَّوِّ من تنظيفها في مُهِمَّة استغرقت ثلاث ساعات. كانت أصعب فقرات هذه المُهِمَّة هي الوصول إلى بقايا الدَّم التي تسلَّلت ما بين الدُّشّ، وطبقة الأسمنت الأبيض، خاصة أنه من السَّهل نسيان مناطق كهذه.

لم يعد هناك أيُّ شيء على أيِّ سطح؛ لقد وُضع الـ"شاور جل"، وفُرشاة الأسنان، ومعجون الأسنان في الدُّولاب الصَّغير فوق الحوض. ثم هناك مشاية حمام؛ وجه أسود مبتسم على مستطيل أصفر في مساحة بيضاء.

تجلس "أيولا" فوق قاعدة التُّواليت، تحتضن رُكبتيها إلى صدرها بذراعيها. جفَّ الدَّم فوق فستانها، فلا خطر من أن تتساقط قطراته فوق الأرضية التي صارت الآن نظيفة ناصعة البياض. لملمت ضفائر شعرها فوق رأسها، حتى لا تُلامس الأرض. تُحدِّق فيَّ بعينيها الواسعتين البُنِّيتين، في خوف من أن أكون غاضبة، وفي ترقُّب من أن أفرغ من مهمتي، ومن ثم أبدأ مُحاضرتي المُعتادة.
أنا لستُ غاضبة، بل مُتعبة. تتقاطر حبَّات العَرَق من حاجبي إلى الأرضية، فأمسحها بالإسفنجة الزرقاء.

كُنتُ أهمُّ بتناول طعامي لحظة أن اتَّصلت. كنت قد وضعت كل شيء فوق الصينية بنظام؛ الشوكة إلى يسار الطبق، والسكين إلى يمينه. طويتُ المنديل على شكل تاج، ووضعته في قلب الطبق. أوقفت الفيلم على الشاشة عند التِّتر، ورَنَّ جرس الفُرن في اللحظة نفسها التي اهتزَّ فيها تليفوني بكل عنف فوق الطاولة.
سيكون طعامي قد برد عندما أعود إلى المنزل.

أقف وأشطُف القُفَّاز في الحوض، ولكنني لا أخلعه. تحدق "أيولا" في انعكاس صورتي على المرآة. أقول لها:
- علينا أن نتخلَّص من الجُثَّة.
- غاضبة مِنِّي؟
الشخص الطبيعي سيغضب بالتأكيد، ولكن ما أشعر به الآن هو حاجة مُلِحَّة للتَّخلُّص من الجُثَّة. عندما وصلت إلى هنا، حملناه، ووضعناه في شنطة السيارة، حتى يتسنَّى لي التنظيف والتَّخلُّص من كل الآثار بعيدًا عن نظرات عينيه الخاويتين.
- أحضري حقيبتك.
عُدنا إلى السيارة، فوجدناه ينتظرنا داخل شنطتها..
يَخِفُّ الزِّحام المروري فوق الكوبري الثالث في هذا الوقت من الليل، وبما أن الكوبري خالٍ من أعمدة الإنارة، فإنه غارق في ظلام دامس، ولكن أنوار المدينة تبقى مُتألِّقة عند نهاية الكوبري. أخذناه إلى حيث أخذنا الجُثَّة السابقة؛ فوق الكوبري، ثم إلى الماء. لن يُعاني الوحدة على الأقل.

تسرَّب بعض الدَّم إلى فرش شنطة السيارة. عرضت "أيولا" تنظيف تلك الآثار، إحساسًا منها بالذنب، ولكنني تناولت المزيج الذي حضَّرته مُسبقًا، ملعقة أمونيا في كوبي ماء، وسكبته فوق البُقعة. لا أعلم يقينًا بما إذا كانوا في شرطة ومباحث "لاجوس" يمتلكون أحدث تقنيات فحص مسرح الجريمة أم لا، ولكن ما أنا مُتيقِّنة منه تمامًا هو أن "أيولا" لا يمكن أن تُنظِّف بكفاءة وفعالية تنظيفي نفسهما.

انشغلت "يينكا" الجالسة في مكتب الاستقبال بطلاء أظافرها. ولمَّا رأتني "بونمي" أقترب، لكزتها تُنبِّهها، ولكنه كان تنبيهًا دون جدوى. لن تتوقَّف "يينكا" عمَّا تفعله لأجلي. استقبلتني بابتسامة ماكرة.
- "كوريدي".. حذاء جميل!
- أشكركِ.
-
لا بد أن الأصلي منه غالي الثمن، جدًّا
كادت "بونمي" تختنق وهي تشرب الماء عندما سمعتها، ولكنني لن أنخدع بهذا الطُعم. لا يزال صوت "تيد" يسري في جسدي، يهدهدني مثل طفلة رضيعة. تجاهلتها وتحدثت إلى "بونمي":
- سآخذ استراحة الغداء الآن.

توجَّهت إلى الطابق الثاني وطعامي في يدي، وطرقت باب مكتب "تيد"، ثم انتظرت صوته يطلب مِنِّي الدخول. نظرت "جيمبي"، عاملة نظافة أخرى (ربما تظن أن المستشفى يلمع نظافةً في ظل وجود كل هذه العمالة)، ومنحتني ابتسامة خبيرة ودودة، أضاءت لها وجنتيها. تجاهلت رد الابتسامة؛ فهي ابتسامة تقرأ أفكاري. حاولت ضبط أعصابي وأنا أطرق الباب ثانيةً.
- تفضَّل.
أنا الآن لا أدخل مكتبه بصفتي مُمرِّضة. أحمل بين يديَّ علبة طعام فيها أرز والـ"إيفو". حدست أن الرائحة وصلته ما إن دخل المكتب.
- ما الذي استدعى منحي هذا الشرف كله؟
- أنت نادرًا ما تأخذ استراحة غداء.. لذا قلت إن عليَّ أن أحضر الغداء إليك.
تناول العلبة مِنِّي، ونظر إلى ما في داخلها، وأخذ نفسًا عميقًا.
- هل أنتِ مَن أعد هذه؟ رائحتها رائعة!
- تفضَّل.
ناولته شوكة، وتناول من العلبة. أغمض عينيه وهو يتنهَّد، ثم فتحهما وابتسم لي.
- "كوريدي".. يا سعد مَن ستكونين زوجته.
أتصوَّر أن الابتسامة التي ارتسمت لحظتها على وجهي أوسع من أن تحيط بها عدسة كاميرا. أحسست بها حتى أخمص قدميَّ.
- سأتناول بقيَّة هذا الطعام لاحقًا. عليَّ الانتهاء من هذا التقرير.
نهضت من فوق حافة المكتب، وأنا أخبره بأنني سأعود لآخذ العلبة والشوكة.
- أشكركِ، "كوريدي".. أنتِ الأفضل حقًّا.

لمحت امرأة في قاعة الانتظار تحاول تهدئة رضيع يبكي، وتهدهده، ولكن بلا جدوى. كان ذلك يضايق بعض المرضى الآخرين في القاعة. ويضايقني. رُحتُ إليها وفي يدي شُخشيخة، أملًا في أن تلفت انتباه الرضيع، في ذات اللحظة التي انفتحت فيها أبواب المدخل.

دخلت "أيولا"، والتفت الكل نحوها. توقَّفت في مكاني، والشُّخشيخة في يدي، وأنا أحاول فهم هذا المشهد الذي يدور أمامي. وكأنها جلبت معها ضوء الشمس إلى العتمة. ترتدي فستانًا أصفر برَّاقًا يبذل جهده حتى يحتوي نهديها النافرين. وفي قدميها حذاء عالي الكعب أخضر يعوض قصر قامتها، وفي يدها حقيبة بيضاء صغيرة، ولكنها تكفي لاحتواء سكين.

ابتسمت لي، وتوجَّهت نحوي. سمعت رجلًا يتمتم مذهولًا وقد احتبست أنفاسه.
- "أيولا".. ما الذي تفعلينه هنا؟
- إنها ساعة الغداء!
- بمعنى؟

راحت نحو مكتب الاستقبال والسؤال مُعلَّق في الهواء خلفها. تسمَّرت عيون زميلاتي عليها، وهي بدورها ابتسمت لهن أجمل ابتسامة.
- أنتن صديقات أختي؟
فتحن أفواههن بلا كلمات، ولكن "يينكا" سرعان ما صاحت:
- أنتِ أخت "كوريدي"؟

واضح جدًّا أنها تحاول البحث عن أيِّ وجه شبه بيننا.. ولم تفلح، ولكن الشبه موجود.. الفم نفسه، والعينان نفسهما.. ولكن "أيولا" أقرب إلى عروسة "براتز" سمراء وأنا مثل عروسة من التي يستخدمونها في طقوس سحر "الفودو" الأفريقي. حتى إن "يينكا"، التي نعتبرها أجمل موظفة في مستشفى "سانت بيتر"، تكاد تذبل وتذوي تمامًا إلى جوار "أيولا". وهي تعرف.. تعرف هذه الحقيقة بينما تحاول هندمة شعرها، والوقوف باعتدال. سألتها "بونمي":

- أيُّ عطر هذا؟.. هذا.. أنا أعرف الاسم..
مالت "أيولا" نحوها، وهمست في أُذنها بكلمات، قبل أن تعتدل:
- صار هذا سرًّا بيننا.. أليس كذلك؟

غمزت لها، فتحوَّل وجه "بونمي" الباهت إلى نور. هذا يكفي.. توجَّهت إلى المكتب.
ومن دون سابق إنذار، سمعت صوت "تيد"، فسقط قلبي في قدميَّ. قبضت على يد "أيولا"، وجذبتها نحو باب الخروج.

- ما هذا؟!
- اذهبي الآن!
- ماذا؟ لماذا؟ لما تتصرَّفين بـ...
- ما الذي يجري...؟

كان "تيد"، تجمَّد الدَّم في عروقي. خلَّصت "أيولا" يدها من قبضتي، ولكن هذا لا يهم؛ فات الأوان الآن. لقد رآها، وانبهر. أخذ يُعدِّل من وضع معطفه الأبيض.
- ما الذي يجري؟
هذه المرَّة صوته أجشُّ من فرط الارتباك.
- أنا أخت "كوريدي".
نظر إليَّ، ثم عاد ينظر إليها.
- لم أكن أعرف أن لديكِ أُختًا.
كان يسألني متعجِّبًا، بينما عيناه عليها هي.
- أعتقد أنها تخجل منِّي.
ابتسم لها.. تلك الابتسامة..
- مَن هذا الذي يخجل منكِ؟ مَن يجرؤ؟ آسف.. لم أعرف اسمك.
- "أيولا".
مدَّت يدها إليه، على طريقة ملكة تتعطَّف على أحد رعاياها.
صافحها وهو يتعمَّد أن يعتصرها بكل رقَّة للحظة..
- وأنا "تيد".