رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

العراق بين أمريكا و«ناتو».. وعودة فزاعة «داعش»



ترامب اغتال قاسم سليمانى ٣ يناير ٢٠٢٠.. البرلمان العراقى ألزم الحكومة بإلغاء طلب مساعدة التحالف الدولى ضد «داعش»، بقيادة أمريكا، وإنهاء تواجد القوات الأجنبية ٥ يناير.. إيران قصفت القوات الأمريكية بقاعدتى «عين الأسد» فى الأنبار و«حرير» فى أربيل، بالصواريخ البالستية ٨ يناير.. تداعٍ سريع للأحداث، أخل بالتوازن الذى تحرص عليه بغداد فى علاقاتها بواشنطن وطهران، نتيجة عدم احترام ترامب الاتفاقيات المنظمة للتعاون، وضوابط استخدام الأسلحة والمجال الجوى وعلاقات حسن الجوار، مما حول العراق إلى ساحة حرب، وعرّض أمنه للخطر.
الجنرال كينيث ماكينزى، قائد القيادة المركزية الأمريكية، زار بغداد، فى اليوم التالى لاغتيال سليمانى، التقى رئيس حكومة تصريف الأعمال، ورئيس الجمهورية، ومجلس النواب، ليؤكد الحرص على استمرار التعاون ضد الإرهاب، ودعم قدرات القوات العراقية، ويحاول الحصول على تصريح لنشر منظومات الدفاع الصاروخى «باتريوت» حماية للقواعد الأمريكية.. لكن عبدالمهدى فاجأه بالاتصال ببومبيو، وزير الخارجية، وطلب إرسال مندوبين لتنفيذ قرار مجلس النواب بإخراج القوات الأمريكية.. ترامب حذر من أن واشنطن ستطالب بغداد بتعويضات ضخمة عن تكلفة بناء القواعد العسكرية والمطارات، ولوح بأن للعراق ٣٥ مليار دولار فى البنوك الأمريكية يمكن مصادرتها.
إيران خشيت من استجابة العراق للضغوط الأمريكية، فوجهت «حركة النجباء» العراقية الموالية لها، إلى التهديد بالانتقام من اغتيال سليمانى وأبومهدى المهندس، الحركة مدرجة على قوائم الإرهاب الأمريكية، لتلقيها الدعم العسكرى والسياسى والمالى من الحرس الثورى الإيرانى وحزب الله اللبنانى، ولما ارتكبته من جرائم فى الحرب السورية والعراقية.. قيامها بقصف السفارة الأمريكية ١٣ فبراير، يعكس نية إيران خوض حرب طويلة ضد القوات الأمريكية فى العراق، استنادًا لميليشيات «الحشد الشعبى»، وهى حرب لا يمكن الاستهانة بها، لأن قواته ١٣٠ ألف مقاتل، مزودون بالأسلحة الثقيلة والصواريخ.

أمريكا تبحث عن بدائل لقواعدها فى العراق، حال الاضطرار لإخلائها، لأنها تمثل مصدرًا لردع إيران.. ما تم تداوله بشأن نقلها إلى الأردن نفته السفارة الأمريكية فى عمان.. بومبيو، وزير الخارجية، استقبل مسرور بارزانى، رئيس حكومة إقليم كردستان العراق، على هامش مؤتمر ميونخ للأمن، وشددا على ضرورة بقاء القوات الأمريكية ضمن التحالف الدولى ضد الإرهاب.. وذلك تلويح بأن الإقليم قد يكون بديلًا للقواعد، حال إصرار بغداد على رحيلها، لكن ذلك يؤدى إلى استقواء الإقليم بالوجود الأمريكى، ويعزز تطلعاته نحو إنشاء كيان مستقل عن الحكومة المركزية.
عندما تأكد حلف «ناتو» من عزم العراق على إنهاء الوجود العسكرى الأمريكى، بدأ طرح نفسه كبديل، بعد أن كان قد علق عمل بعثته، وسحب بعض العسكريين، منذ اليوم التالى لاغتيال سليمانى، تحسبًا لردود الأفعال الإيرانية، كما كان قد علق مع التحالف الدولى برنامج التدريب العسكرى فى العراق.. أمريكا عضو فى التكتلين، وبالتالى يمكن لقواعدها الاستمرار مع تغيير «العلم».. الرئيس صالح التقى ينس ستولتنبيرج، الأمين العام لـ«ناتو»، على هامش منتدى «دافوس» ٢١ يناير، وبحثا تولى الحلف عمليات التدريب والدعم العسكرى اللازم للقوات العراقية.
وزراء دفاع «ناتو» قرروا فى بروكسل، ١٥ فبراير، استئناف برنامج التدريب للجيش العراقى، الذى تنفذه بعثة الحلف، التى تتكون من ٥٠٠ عسكرى، بقيادة كندا، لكنها غير مفوضة بالقتال على الأراضى العراقية، كما اتفقوا على توسيع حجم ونشاط البعثة، لتتمكن من تسلم المسئوليات الاستشارية الإضافية من قوات التحالف.. الأمين العام للحلف أكد موافقة بغداد على ذلك.. وقائد قوات «ناتو» فى أوروبا، كشف عن تلقى ضمانات أمنية عراقية تتعلق بعمل البعثة.. إسبانيا أبدت استعدادها لدفع المزيد من عسكرييها إلى العراق.. كل المعلومات تؤكد أن الحلف يعزز دوره فى قضايا أمن الشرق الأوسط، وهو ما اعتبرته الخارجية الروسية توجهًا ضد موسكو.
روسيا عرضت على بغداد دعمًا عسكريًا عوضًا عما كانت تقدمه واشنطن.. رئيس أركان الجيش العراقى، أجرى مباحثات مع سفير روسيا ببغداد، تتعلق بتعزيز التعاون العسكرى، واتفقا على مواصلة تقديم الدعم للمركز الأمنى فى بغداد المعنى بتبادل المعلومات والتنسيق، ويضم العراق وروسيا وسوريا وإيران.. رئيس الأركان تلقى دعوة لزيارة موسكو، لوضع إطار التعاون، خاصة فيما يتعلق بتأمين احتياجات العراق من طائرات الاستطلاع.. وإن كانت هناك ضغوط من جانب القوى الموالية لإيران، لطلبها من طهران، وسرعة إنهاء الوجود العسكرى الأمريكى، مما يفسر طلب الحكومة من قواتها عدم التعاون أو الاعتماد على أى دعم من التحالف الدولى بقيادة واشنطن فى أى عمليات ضد «داعش».. الكولونيل مايلز، المتحدث باسم التحالف، أكد أنه لم يتم تنفيذ أى غارات منذ اغتيال سليمانى، لأن العراق لم يطلب إسنادًا جويًا.

خلال زيارة الجنرال ماكينزى لبغداد حرص على تذكير كبار المسئولين بأن تحديد مستقبل تواجد قوات التحالف، ينبغى أن يتم التنسيق بشأنه استنادًا إلى تقييم خطر «داعش».. وزارة الخارجية الأمريكية حذرت من تبعات سحب قواتها من العراق، لأنه قد يؤدى إلى عودة «داعش».. صحيفة «ذا ناشيونال» نقلت عن مسئولين أكراد أن ٥٠٠٠ مقاتل من «داعش» يعيدون تجميع صفوفهم قرب بلدة مخمور بالمنطقة التى كان يحتلها التنظيم منذ ٢٠١٤، وهى تعج بالكهوف التى يصعب الوصول إليها، وشبكات أنفاق التهريب، والسكان يخضعون لأساليب الترهيب والإغراء من التنظيم، الذى يستغل سوء المعاملة التى تعرضوا لها من قبل ميليشيات الحشد الشعبى الموالية لإيران.. أمريكا أسست «داعش»، ثم قامت بتصفية البغدادى، بعد إنجاز مهمته، لكنها تعيد توظيف بقايا التنظيم، كأدوات معاونة، لخدمة مصالحها بالمنطقة.
القوات الأمريكية نقلت ٢٠٠ محتجز من أطفال ونساء مسلحى «داعش» منتصف ديسمبر الماضى، من مخيم الهول بريف الحسكة إلى العراق بعد إفراج الإدارة الكردية عنهم، بينهم ١٥ عنصرًا من أعضاء التنظيم لم تثبت عليهم الجرائم!، هذه العملية مستمرة منذ فترة طويلة، ويتم النقل على دفعات، الحشد الشعبى احتجز عائلات عدد من مسلحى «داعش» قادمة من مخيم الهول إلى محافظتى نينوى والأنبار، بطريقة غير قانونية، المخابرات العسكرية اعتقلت عنصرًا كان يقوم بنقلهم باستخدام مستندات مزورة، المخيم هو الأكبر لنساء وأطفال وعناصر «داعش» بسوريا والعراق، ويضم ٧٣ ألف شخص، موزعين على ١٣ ألف خيمة، بينهم ٤٩ ألف طفل.
الجيش العراقى أعلن عن القضاء على «داعش» بعد معركة تحرير «الموصل»، يوليو ٢٠١٧، لكن ازدياد تحركات التنظيم تؤكد المعلومات الخاصة أنه بدأ إعادة تجميع قواته، وتحديث تنظيمه العسكرى من حيث القيادة والتعبئة والتدريب، وأصبح جاهزًا لتنفيذ عمليات نوعية و«غزوات» متزامنة، متعددة المحاور، على أهداف استراتيجية منتقاة.. «داعش» هاجمت حقول «علاس» النفطية فى قضاء تكريت شرق محافظة صلاح الدين ١٣ فبراير الجارى، الشرطة تصدت لها فانسحبت، الهجوم أكد قدرة التنظيم على المبادرة بالهجوم، وانتقاء أهدافه على نحو يوفر له مصادر تمويل، فضلًا عن قدرته على المواجهة أو الانسحاب المنظم أمام الهجمات المضادة، دون أن يتكبد أى خسائر.
الجيش العراقى كان قد خطط للقيام بعملية مشتركة مع «التحالف الدولى» ضد «داعش» فى ٣٠ يناير الماضى، إلا أنها ألغيت بعد اغتيال سليمانى.. قيادة العمليات المشتركة بدأت عمليات «أبطال العراق» ١٣ فبراير، لتمشيط الأنبار والمناطق المحيطة غرب العراق، وكذا الحدود العراقية السورية الأردنية.. عمليات عراقية خالصة، دون مشاركة قوات التحالف، بهدف التخلص من بقايا الإرهاب، وتدمير الأنفاق والمعسكرات التى تستخدم كمقرات للتحكم والسيطرة والتدريب.. العمليات امتدت لناحية يثرب ومنطقة السعلوة جنوب سامراء، وكذا سلسلة جبال بادوش بمحافظة نينوى شمال غرب الموصل.
الوجود الأمريكى والغربى فى العراق مرفوض تحت أى مسميات، لكنه حاليًا وسيلة مرحلية لمعادلة الوجود الإيرانى ونفوذ حزب الله المتصاعد، كما أنه ضرورة لمواجهة الإرهاب، نظرًا لحدود قدرات الجيش العراقى، خاصة فيما يتعلق بسلاح الطيران، وعمليات الاستطلاع الجوى والمخابرات.. استقلال العراق رهن بتوازن هش، بين الهيمنة الإيرانية والنفوذ الأمريكى، وأى إخلال بهذا التوازن لا يمس استقرار العراق فحسب، بل يهدد استقلالها.. المقدمة الأولى للعمل هو أن تبدأ الدولة بتفكيك الكيان التنظيمى لميليشيات «الحشد الشعبى»، واستيعاب عناصره داخل المؤسسة العسكرية كأفراد، لا كتشكيلات، كما هو الوضع حاليًا، وذلك حتى تتخلص منه ككيان موالٍ لإيران، دون خسارة عناصره المدربة، وخلال هذه الفترة تكون قد استكملت تطوير قواتها الجوية، على نحو يجنبها أى اختلال يمكن أن يحدثه رحيل قوات التحالف. العراق دولة ثرية بقدراتها وطاقة وتنوع طوائفها، لكنها فى حاجة للتخلص من رموز الفساد السياسى والمالى والإدارى، قبل أن تعيد هيكلة مؤسساتها، على نحو يتفق مع الرؤية والمصلحة الوطنية، لا على أساس توفير مقومات التبعية والخضوع لسيادة إمبراطورية «قم».