البحث عن الهوية المصرية
الكتاب الثالث.. الفكر المصرى فى العصر المسيحى
لماذا قال الدكتور رأفت عبدالحميد مؤلف «الفكر المصرى فى العصر المسيحى»، الذى صدر فى العام ١٩٩٩، المسيحى ولم يقل القبطى.
يجيب ببساطة: القبطية ليست دينًا، فمن الخطأ البيّن القول بالديانة القبطية، إذا انصرف الذهن إلى الآلهة المصرية القديمة، والقبطية، بالتالى لا تعنى المسيحية، وليست بديلًا عنها، ومن ثم فإن كلمة الأقباط تعنى المصريين جميعًا، المسلمين والمسيحيين على السواء، فهذا قبطى أى مصرى مسلم، وهذا قبطى أى مصرى مسيحى، يضمهم جميعًا بين أحضانه البلد العظيم مصر.
ومن ثم، فالقول بمصر القبطية أى مصر المصرية، أو مصر فى العصر القبطى أى مصر فى العصر المصرى، لا يستقيم مع التاريخ ولا مع المنطق.
آثر عبدالحميد أن يكون الكتاب «الفكر المصرى فى العصر المسيحى»، لأن هذا كانت واقع الحال الذى عاشت فيه مصر، فقد عرفت المسيحية طريقها إلى الإمبراطورية الرومانية منذ القرن الأول الميلادى، وظلت تنتشر على استحياء طيلة القرون الثلاثة الأولى، حيث كانت للوثنية السيادة، فلما كان القرن الميلادى الرابع وهو بداية الفترة التى يتناولها فى كتابه، حدث انقلاب هائل فى الناحية العقيدية، وترتبت على ذلك تحولات جذرية فى مختلف المفاهيم فى الإمبراطورية، فقد اعترف قسطنطين العظيم فى مطلع ذلك القرن بالمسيحية ديانة شرعية لها أحقية الوجود إلى جانب الوثنية واليهودية، ولأتباعها حق ممارسة طقوسهم الدينية.
لم يكن عدد المسيحيين فى الإمبراطورية وقتها يتجاوز عشر مجموع السكان، ومن ثم لم تصبح ديانة رسمية كما يعتقد كثيرون خطأً.
لما أذنت شمس القرن الرابع بالمغيب وتحول عدد كبير من الناس إلى المسيحية بحكم اعتناق الأباطرة خلفاء قسطنطين لها، حققت المسيحية انتصارًا كبيرًا عندما أعلن الإمبراطور ثيودوسيوس الأول اعتبارها الديانة الرسمية للإمبراطورية، وحل بالوثنيين العذاب.
على امتداد القرون الثلاثة التالية حتى السابع راحت الإمبراطورية تصطبغ بالصبغة المسيحية تدريجيًا فى الفكر السياسى والتشريعات القانونية والمعاملات الاقتصادية والكتابات الأدبية والتشكيلات الفنية، ومناحى الحياة الاجتماعية، وأصبح الأساقفة وكنائسهم والرهبان وأديرتهم محط أنظار جميع طبقات المجتمع، من الإمبراطور إلى رجل الشارع. العصر المسيحى إذن هو العصر الذى يمتد من القرن الرابع إلى القرن السابع الميلادى، وهو عصر كما وصفه رأفت عبدالحميد بأنه زادت فيه قبضة الحكومة وسلطانها، وضبط مياه النيل لزيادة حصيلة الضرائب، وكلاهما مرتبط ببعضه، ومن ثم يغدوان هدفًا أو غرضًا واحدًا، ولا شىء سوى ذلك.
وهنا تظهر عبقرية هذا الكتاب، الذى يظهر أن مصر إذا فقدت استقلالها السياسى عوضت ذلك بالتفوق فى ميدان آخر، بحيث يمسى هذا المحتل تابعًا لمصر فى هذا الجانب. ففى العصر الذى يخضعه المؤلف للدراسة حققت مصر مكانة مرموقة فى الجانب الفكرى، وتحديدًا فيما يتعلق بأمر العقيدة الدينية، فقد فرض اللاهوت السكندرى نفسه على الفكر الكنسى كله فى دنيا المسيحية، سواء كان ذلك فى الأوريجنية التى شغلت الإكليروس والرهبان والأباطرة حتى القرن السادس الميلادى، أو الآريوسية التى سادت الإمبراطورية طول القرن الرابع، أو الكيرللية التى عقدت من حولها المجامع فى القرن الخامس الميلادى، وليست هناك مدينة فرضت بصماتها وطابعها على المسيحية، كما فعلت الإسكندرية، وكانت كنائس روما والقسطنطينية وأنطاكية تنتظر القول الفصل فى أمر العقيدة من الأسقف السكندرى.