رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

اختيار الله لقائد العمل الروحى واختيار البشر


يسجل لنا سفر «نحميا»، النبى نوعية القائد البشرى، الذى يرسله الله متى أراد أن يحقق عمله من خلال الناس، وقد كان «نحميا» النبى نفسه مثالًا رائعًا لهذا القائد البشرى. «نحميا» اسم عبرى معناه «تحنن يهوه» أو«تحنن الله»، وكان من اليهود المسبيين فى «بابل» وعمل ساقيًا فى بلاط الملك الفارسى «آرتحتشستا».
شاهد الملك ذات يوم أن «نحميا» حزين، فاستفسر منه عن ذلك. وهنا انتهز «نحميا» الفرصة، وأخبر الملك بأنه حزين للحالة التى وصلت إليها مدينة آبائه وأجداده، المدينة المقدسة «القدس»، بسبب الدمار الذى حلّ بها. وطلب من الملك أن يسمح له بالعودة إليها وبناء أسوارها من جديد وإعادة الحياة إلى بيوتها وأحيائها الراكدة، وكان ذلك حوالى سنة ٤٤٥ قبل الميلاد. وتمكن «نحميا»، الذى كان يثق بمساندة الله له، من إقناع الملك، الذى سمح له بالعودة إلى القدس، بل أمر بإرسال كوكبة من الفرسان لحراسته، وعينه حاكمًا على ولاية اليهودية. وصل «نحميا» إلى مدينة القدس، وكان الكاهن «عزرا» قد سبقه إلى القدس منذ ١٣ سنة، وأول شىء فعله نحميا، لأنه رجل الله بصدق، هو أن تجول حول المدينة فى الليل وراقب الأسوار المتهدمة. وفى اليوم التالى صارح الشعب بأهمية بناء الأسوار من جديد، ودعاهم إلى العمل معه من أجل تحقيق هذه الأمنية، وهذه مسئولية القائد الروحى الأمين أن يبدأ العمل والشعب معه، فلا توجد رئاسة بل خدمة لله، فوافق الشعب ولبى نداءه، وتعهد كل رئيس بيت ببناء جزء من السور مستعينًا برجاله وعماله. ولكن هذا العمل تعرض لهجوم وحرب من سكان المناطق المجاورة، فأمر «نحميا» العمال بحمل الأسلحة لصد أى عدوان حتى وهم أثناء العمل، وانتهى العمال من بناء السور وترميمه فى ٥٢ يومًا، وكان ذلك فى سنة ٤٤٤ قبل الميلاد.
بعد ذلك اتجه «نحميا» إلى بناء الشعب وإلى إحداث نهضة روحية فى صفوفه، وحكم نحميا اليهودية مدة ١٢ سنة ثم عاد إلى «شوشن» عاصمة الإمبراطورية الفارسية، وكان ذلك عام ٤٣٣ قبل الميلاد، ولكنه لم يبق فيها طويلًا ورجع إلى القدس، حيث استمر يشغل وظيفة الحاكم العام إلى أن توفى.
إن بناء السور الذى قام به «نحميا»، النبى، كشف بكل وضوح عن العمل الروحى السليم لبناء الكنيسة روحيًا الذى يبدأ بالكاهن العظيم وإخوته الكهنة ليكونوا قدوة للشعب فى العمل بروح الجماعة، لا لمصالحهم الخاصة، وإنما لحساب الجماعة كلها، فلا معنى لبناء مبانٍ فخمة بمصاريف باهظة، بينما هناك الكثير من أبناء الشعب لا يوجد لهم أى مأوى، لا معنى لوجود مسئول لا يهتم ببيوت العبادة المهدمة ولا النفوس البشرية التى ضلت الطريق، وبناء السور لم يكتمل إلا ببناء الداخل، لهذا طلب «نحميا» من الأغنياء أن يهتموا بالمساكين، وقدّم نفسه قدوة، فلم يعش فى حياة ترف، ولم يسمح لنفسه بالسير على سجادة حمراء رمز التنعم، وهنا نرى أن «نحميا» كان لديه أسلوب آخر فى القيادة. وللأسف فى وقتنا الحالى لا نرى من يقودون كنائسهم بهذه الطريقة، ولكن هذا كان أسلوب «نحميا»، الذى احتاجه الشعب آنذاك. كان «عزرا» الكاهن مهندس عمل الله الذى استخرج العمل المطلوب من كلمة الله، أما «نحميا» فكان البنّاء. لقد كان «نحميا» رجل الله الحقيقى والمختار بصدق من الله. وكان محركًا ومنجزًا روحيًا. لقد آمن بأنه عليه أن يخرج خارجًا ويجعل الله يعمل. إن هذين الرجلين كلاهما نموذجان رائعان فى القيادة الروحية الصادقة، حتى ولو اختلف أسلوبهما. وفى سفر «نحميا» نرى مبادئ القيادة أو الصفات التى ينبغى أن يجدها الله فى شخص سيستخدمه، أما اختيار البشر فيكون مبنيًا على مصالح شخصية والمجاملات ويكون هناك تزوير وتلاعب وفساد وانعدام الضمير. ومن هنا قام الدارسون للكتاب المقدس بإطلاق اسم «صفات القائد لعمل الله» على سفر «نحميا» والصفات هى:
«١» الله يبحث عن شخص مثقل بعمل الله الذى سيعمله. فالإنسان الأمين فى تحمل رسالة الله هو أن يشعر بثقل كبير لهذا العمل. «٢» أن يكون هذا الشخص قد سبق وأخذ كلمة من الله بخصوص العمل الذى يريده الله أن يعمله، لقد أراد الله من «نحميا» أن يبنى السور حول أورشليم. «٣» أن تكون لديه حواس مدربة على سماع صوت الله، وهذا ما نجده فى «صموئيل» النبى عندما دعاه الله ٣ مرات، قال صموئيل قوله المشهور: «تكلم يا رب فإن عبدك سامع». وفى جيلنا الحالى رأينا البابا كيرلس السادس البطريرك ١١٦ كانت له أذن مدربة على سماع صوت الله، فكل ما كان يفعله للكنيسة والوطن كان نتيجة صوت الله له، ومن هنا كانت كل أعماله مباركة جدًا ومبهجة للنفس، وهذا ما تجلى فى رسالته الرعوية الأولى التى تليت يوم رسامته المباركة فى ١٠ مايو ١٩٥٩ حينما قال للشعب: «الله يعطينا النجاح ونحن عبيده نقوم ونبنى». «٤» أن يكون صاحب التزام تجاه العمل الذى يريد الله إتمامه. يظهر «نحميا» التزامه لعمل الله عندما كان لا يزال ساقيًا للإمبراطور. وكانت شريعة مادى وفارس تقول إنه لا يجوز لأحد أن يكون حزينًا أو سلبيًا فى حضرة الإمبراطور، وإلا لربما يتم إعدامه. ففى ذات يوم نظر الإمبراطور إلى «نحميا» وسأله: «ما بالك كئيبًا؟»، قال «نحميا»: «فخفت وصليت بصمت»، وهنا نجد «نحميا» يظهر التزامه: «ولكنى أجبت: ليحيا الملك إلى الأبد. كيف لا يكمد وجهى والمدينة بيت مقابر آبائى خراب وأبوابها قد أكلتها النار»، نلاحظ أنه صلى قبل أن يجاوب الملك. «٥» أن تكون لديه المقدرة على أن يجعل الآخرين ينخرطون معه فى عمل الله. فعندما شارك هذا القائد رؤياه مع شعب الله، تبعه الشعب. فإحدى صفات القائد الذى يختاره الله هو القدرة على تحريك شعب الله. «٦» أن يتمتع القائد بحياة الصلاة التى تتمحور حول عمل الله. وفى عصرنا الحديث رأينا قوة الصلاة فى حياة البابا كيرلس السادس حتى دعى «رجل الصلاة». «٧» أن يندمج القائد مع الشعب عندما يقومون بعمل الله ولا يبتعد عنهم ولا ينفر منهم. فعمل «نحميا» مع الشعب فى بناء السور، وهو ما طلبه الله من «نحميا». «٨» أن يكون شخصًا ذا قناعات قوية. فعندما لاحظ «نحميا» أن بعض الأمور لا تسير على ما يرام، وأن البعض من الشعب يسلبون إخوتهم، ألزمهم «نحميا» بأن يتعهدوا بألا يسلبوا إخوتهم اليهود مجددًا. «٩» أن يكون شخصًا صاحب ثقة عظيمة. فـ«نحميا» كان متيقنًا أنه يعمل عملًا عظيمًا للرب، وأن الله دعاه للقيام بهذا العمل. هذا أعطى «نحميا» ثقة لا تتزعزع، بينما كان يقوم بالعمل الذى ائتمنه عليه الله. «١٠» أن يكون شخصًا ذا شجاعة لا تعرف الخوف. إن الشجاعة هى صفة هامة من صفات القائد الذى يستخدمه الله. «١١» أن يكون شخصًا له هدف أولوى. فـ«نحميا» يعرف ما هى أولوياته، ويقود شعب الله للموافقة معه على أولويات الله هذه. «١٢» أن يحمل الشخص عصا الراعى كراعٍ حقيقى، وكراعٍ صالح، يستخدم القائد عصا الراعى ليقود وليؤدب شعب الله. وكوالد صالح، ينبغى أن يحب القائد شعبه كفاية لكى يستطيع تأديبهم. «١٣» أن يكون شخصًا واعيًا لطبيعته البشرية الضعيفة. فالقائد هو بشر يعى كونه كذلك. وهو ليس فقط واعيًا لطبيعته البشرية الشخصيّة، بل أيضًا للناس الذين يقودهم. «١٤» أن يعرف الشخص ضرورة إتمام العمل الذى أعطاه إياه الله لتمجيد الله وحده دون أى مجد ذاتى. ولقد أتم «نحميا» بناء السور لمجد الله. ينبغى ألا يغيب خط النهاية عن ناظرينا أبدًا، عندما نقوم بالعمل الذى يريدنا الله أن نعمله.