رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الدراما الجامعية والتعليم العادل



يبدو أن الدراما فى مصر المحروسة بكل أشكالها، وعبر كل العصور قد اعتبرها البعض «كلمة السر» فى عكس صورة أحوال مجتمعاتنا.. إن كان ذلك فى أزمنة الاستقرار الوهمى المرضى، أو حتى فى مراحل تحقيق الإنجازات الوطنية.. وسواءً فى عهود نجاح تلك الفنون الدرامية وازدهارها، أو فى حال ترديها وتراجع رسالتها.
فى مثل هذه الأيام عام ١٩٥٥، أى منذ أكثر من نصف قرن من الزمان نشر فى مجلة «المصور» تحقيق موسع عن مشاكل الجامعات المصرية، وتحت عنوان فرعى «غادروا المدرج ليسمعوا المسلسل الإذاعى سمارة!» وقد روى أحد أساتذة كلية الحقوق فى جامعة القاهرة أنه كان يحاضر فى أكثر من مائتين من طلبته بعد الظهر، فإذا بهم يذوبون فى غمضة عين.. ولا يبقى منهم أكثر من ثلاثين، وكانت حجة المنصرفين، أنهم ذهبوا ليستمعوا إلى الحلقة الأخيرة من رواية «سمارة» فى الراديو «سمارة مسلسل إذاعى شهير بطولة الفنانة القديرة سميحة أيوب وكان يذاع فى الخامسة والربع على البرنامج العام فى منتصف الخمسينيات من القرن الماضى».
ويستطرد الأستاذ الدكتور لمحرر المجلة صارخًا فى وجهه وهو يسأل عمن المسئول عن هذا التخاذل فى روح الجامعة؟.. ثم يرد مجيبًا أيضًا فى ضيق وتبرم وغيظ إنها سياسة فتح الأبواب على المصراعين.. اللعنة على تلك الدراما التى أصابت روح الجامعة فى مقتل.. والغريب أن طلاب الجامعات فى تلك الآونة، وكما هو ظاهر فى الصور المصاحبة للتحقيق الصحفى، كانوا يتميزون بمظهر غاية فى الاحترام والوقار والالتزام والجدية، حيث معظمهم يرتدى الملابس الأنيقة الكاملة وشعورهم مصفوفة فى اتساق متزن تغطيها طبقات كثيفة من الفازلين اللامع حتى لا يخرج فى نشاز شكلى بعضها عن أصول الانضباط قبل أن يظهر معجون «الجيل» الملعون الذى حول رءوس شباب جامعاتنا الآن إلى رءوس قنافذ شديدة الفوضوية للاتساق مع نظرية الست كوندى التى بشرتنا بفكر الفوضى الخلاقة والمجنونة.. ويضيف الأستاذ الذى استشعر الإهانة، بل وهزيمة العمل الأكاديمى والجامعى أمام سحر الدراما الملعونة قائلًا: إن الجامعة يجب أن تبقى لأمثال هؤلاء الثلاثين الذين مكثوا فى أماكنهم فى المدرج.. ولم يذهبوا لسماع دراما «سمارة».. الجامعة يجب أن تكون للحريصين عليها.. المتفرغين لها، الذين سعوا إليها لوجه العلم، لا لوجه الشهادة ثم الوظيفة.. الجامعة يجب أن تكون للمتفوقين وحدهم.. والمجانية أيضًا للمتفوقين وحدهم.. إن طالب الطب يكلف الدولة مائة جنيه فى كل عام، لا يدفع منها غير ثلاثين «فى منتصف الخمسينيات من القرن الماضى»، فيجب أن يؤدى المائة كاملة إذا لم يكن حريصًا على التفوق.
أما رئيس الجامعة د. كامل مرسى فيقول للمحرر إنه لا يجب إقفال باب المجانية أمام فريق من الطلاب قد تنزل به كوارث طارئة.. أما وكيله فيذكر أن عدم التفوق قد يكون مرجعه إلى الفقر، ويقول أكاديمى آخر فى حسم وعنجهية إن مهمة الجامعة هى فى النهاية مهمة علمية لا خيرية.
لقد حدث فى مطلع الألفية الثالثة، وبالتحديد فى نهايات الزمن المباركى أن أصبحت مدارسنا وأيضًا جامعاتنا طاردة، رغم أن الدراما لم تعد هى الأخرى جاذبة، فإن قيادات جامعاتنا وبتحفيز رائع من وزراء الحزب الوطنى ومن تعاقبوا بالجلوس على كرسى الوزارة فى الحِقب الأخيرة أن حسموا الأمر، ولم يعد فيما بينهم هذا الجدل حول تكافؤ الفرص، فقد قرروا ألا تكون فى حساباتهم مصالح أبناء الفقراء أو المتفوقين، وليبقى أصحاب البشرة البيضاء أولاد الناس «اللى همه» هم أصحاب الحق وحدهم فى التعليم المتميز لتبييض وجه الجامعات، فكان إنشاء البرامج المتميزة بعشرات الآلاف من الجنيهات والتوسع فى إنشائها، والتدريس بالإنجليزية والفرنسية والتعليم المفتوح والانتساب الموجه، وغيرها من أشكال ممارسة البيزنس جهارًا فى جامعاتنا الحكومية، ولتذهب شعارات التوسع فى الإتاحة ومنح الفرص التعليمية المتميزة بعدل، ورعاية ذوى الاحتياجات المادية من أبناء الكادحين والفقراء فى الأرياف والعشوائيات إلى ما تبغى أن تذهب مهما اختلت قواعد الدراما وأصول حبكاتها الحراقة الحريفة، فإن دراما التعليم وحكاوى جامعاتنا هى الأقوى تأثيرًا فى حياة الناس.
سامح الله الدراما والدراميين فى كل عصر وأوان بعد أن كشفوا ستر الجامعات التى يعد حالها صورة صارخة لدراما المتاعب الواقعية الكلاسيكية، وصدق كاتبنا الصحفى الراحل «لبيب السباعى» عندما أشار إلى أن النتائج المريرة والمؤلمة للبرامج الجديدة والمتميزة قد بدأت تتفجر بصورة مؤسفة وأنها سوف تؤدى مع استمرارها إلى شحن نفوس الطلاب بالكراهية وتعزيز مشاعر المعاناة من التفاوت الطبقى بين طلاب الكلية الواحدة.. وأضيف: لا عزاء للواقفين فى طوابير مكتب التنسيق.