رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نهاية عصر التوك توك.. و«غربة» ابن الشحات


الانتشار الرهيب لمركبات التوك توك فى السنوات الأخيرة، كان أحد مظاهر حالة التسيب الكبيرة التى سادت الشارع المصرى، فى غفلة من القانون، سواء كانت هذه الغفلة متعمدة أم لا. ولم أجد طوال سنوات مبررًا منطقيًا واحدًا للسماح لهذه المركبات، التى تستخدم كوسيلة نقل عام، للسير دون تراخيص أو لوحات مرورية، فى الوقت الذى لا يملك شخص القدرة على تسيير «فيسبا» أو موتوسيكل صغير من دون ترخيص.
قرأنا جميعًا عن بلطجة «بعض» سائقى التوك توك، وحوادث السرقة والخطف والتحرش التى يقوم بها شبان وأطفال صغار يقودون التكاتك، ورأينا كيف يعطل الكثير منهم حركة السير أو كيف يقودونها عكس السير، فى شارع كورنيش النيل وعلى كوبرى أكتوبر وعلى الأوتوستراد والطريق الدائرى، وكأننا فى مولد صاحبه غائب. كانت الشكاوى تملأ الصحف وصفحات السوشيال ميديا، من حالة الفوضى التى يسببها أطفال التكاتك، الذين يعرفون أنه ليس هناك من يردعهم، وتنطبق عليهم الحكمة القائلة «من أمن العقوبة أساء الأدب». كنت أتساءل- ومعى كثيرون- كيف يتم السماح باستيراد هذه التكاتك عبر الموانئ الرسمية المملوكة للدولة، وعلى أى أساس يحاسب مستوردوها جمركيًا وقانونيًا، ولماذا لم يطالب نائب واحد بترخيص هذه التكاتك أمنيًا ومروريًا، رغم أن الإحصائيات غير الرسمية تشير إلى أن هناك حوالى ثلاثة ملايين توك توك تعمل فى مدن وقرى مصر، ولم أجد أنا وغيرى من يجيب عن هذه الأسئلة.. وازدادت حيرتى عندما علمت أن هناك ورشتين أو مصنعين صغيرين «مرخصين» لتصنيع أجزاء ميكانيكية ومعدنية لازمة لصيانة التكاتك يعمل بهما حوالى ١٥ ألف موظف، كما أذيع على قناة «العربية» الفضائية مؤخرًا، أى أنه تم الترخيص لورشتين لتصنيع أجزاء وقطع غيار لوسيلة نقل غير مرخصة وهذا شىء يدعو إلى العجب..!! لهذه الأسباب كلها كان يجب أن نقف وراء قرار الحكومة بإنهاء «عصر التوك توك» واستبداله بسيارات فان صغيرة، سوف تباع لسائقى التوك توك، حيث قيل إنه سيتم استلام التوك توك على اعتبار أنه يمثل ثلث قيمة السيارة الفان. القرار يبدو للوهلة الأولى رائعًا ويحقق أمل الملايين الحالمين بنهاية فوضى التوك توك، ولكن بعد انتهاء لحظات الإعجاب- أو الانبهار- بالقرار تبدأ التساؤلات المهمة والملحة:
■ هل تستطيع الحكومة فعلًا القضاء على أكثر من ثلاثة ملايين توك توك، تسير وتنقل الناس فى شوارع المدن المصرية وفى الحوارى الضيقة وفى القرى الصغيرة، بمجرد «قرار»، أم أنها ستجند الشرطة كلها من أجل ضبط هذه المركبات غير الشرعية، التى دخلت إلى البلاد على مدى سنوات طوال من المنافذ الشرعية؟، وهل يعنى القرار مصادرة كل هذه الأعداد المهولة من التكاتك وإعدامها أو بيعها خردة، أم سيتم السماح لبعضها بالسير فى الحوارى والقرى؟.
■ هل أخذت الحكومة فى الاعتبار أن هذه الأعداد الضخمة من التكاتك، أصبحت مصدر دخل أساسيًا لعشرة ملايين مصرى أو أكثر، وأنها أصبحت وظيفة أو حرفة ملايين الشبان والأطفال وبعض كبار السن أيضًا؟، وهل درست معنى انضمامهم إلى صفوف العاطلين فجأة، خاصة أن أعدادًا ضخمة منهم لا تمتلك رخصة قيادة، أو تحتاج لشهور لاستخراج هذه الرخصة بسبب الأمية.. كما أن بعض سائقى التوك توك موظفون فى الفترة الصباحية ويعملون عليها فى المساء لزيادة دخولهم، أو أن بعض الشبان فضلوا امتلاك توك توك وقيادته وتركوا الوظيفة؟.
■ هل درست أن بعض التكاتك بحالة سيئة ولا تساوى قيمة مالية تكفى لأن تكون مقدمًا لسيارة مينى فان، وأن بعضها تم شراؤه بالتقسيط منذ فترة صغيرة، وأن أصحاب بعضها نساء يَعُلن أسرًا، وقد لا يحتملن مزيدًا من الأقساط؟.
■ ما هو مصير ورشتى تصنيع قطع التوك توك والعمال الذين كانوا يعملون بهما؟.
■ وأخيرًا هل ستطرح الحكومة مليونًا أو مليونى سيارة مينى فان لتحل محل التوك توك؟.
كل هذه التساؤلات لا تنال من أهمية قرار الحكومة بإلغاء التوك توك، فالقرار رغم تأخره أسعد ملايين المصريين، لكننا جميعًا ندرك أن القرار الحكومى الناجح لا بد أن يراعى الأبعاد الاجتماعية.
الحقيقة المؤكدة أن الحكومات لا تهب الناس الحياة، فهذا شىء بأمر الله وحده، لكنها قد تصدر قرارات توفر بها للمواطنين سبل العيش الكريم، وقد تصدر قرارات تكدر عيشهم إذا كانت غير مدروسة بشكل جيد.. أو إذا لم تصدر فى التوقيت المناسب وبخطوات تنفيذية مناسبة، وتراعى الأبعاد الاجتماعية لهذه القرارات.
سيعود من بلد بعيد
إذا جاءت سيرة الغربة وآلامها فلدىّ الكثير عنها لأرويه، بعد أن أمضيت عقدين من الزمان مغتربًا فى مدن عربية بحثًا عن الرزق، لكن الزميل والصديق محمد الشحات وهو صحفى مخضرم فى أخبار اليوم، وشاعر يمتلك ناصية القوافى ويروض بحور الشعر، اختار أن يفتح بابًا آخر أشد إيلامًا للحديث عن الغربة.
لقد استمتعت بقراءة ديوان الزميل والصديق محمد الشحات، الذى حمل عنوان «سيعود من بلد بعيد»، وهو يتكون من ٢٨ قصيدة تتحدث عن آلامه كأب بسبب غربة ابنه، الذى يعيش بعيدًا عنه بآلاف الأميال، يدخر كثيرًا لكى يسافر إليه ويضمه إلى صدره ويتبادل معه أحاديث الأب المحب لولده، ويمتع ناظريه بحفيدته، التى تعيش فى الغربة، ويتمنى لو تربت بين يدى جدها وجدتها، مشاعر رقيقة مرهفة لكنها تفطر قلوب الآباء الذين يؤلمهم بُعد أبنائهم حتى لو كان ذلك طلبًا للرزق، فكل أموال وثروات الدنيا تتضاءل أمام الأمل فى عودتهم من بلاد بعيدة.
يقول الشاعر محمد الشحات فى إحدى قصائده:
كنت احتبست بجوف عينى
رجفتين من الوداعِ لكى أركَ
إذا اكتويت بجمر أشواقى اليكْ
ماذا حملتَ من اغترابكَ
هل تركتَ على الطريق من البحارِ إلى البحار
صدى حنينك للوطنْ
كثيرون من الشعراء أنشدوا قصائد عن غربة أبنائهم بداية من ابن الرومى والصافى النجفى ونهاية بأمير الشعراء أحمد شوقى وأدونيس، لكنه وحده الزميل محمد الشحات الذى أسعدنا وأبكانا بديوان كامل عن غربة ابنه، الذى ندعو أن يعود إليه سالمًا غانمًا من البلد البعيد، خاصة إذا قرأ مطلع قصيدة أبيه التى يقول فيها:
لا تودعنا وترحل
علنًا نطفو فتحملنا الرياح
فتشتهى أن ننتهى سحبًا
ونصب قطرة تمضى إلى وطنى
فتنبت زهرة أو سنبلات