رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أوراق نصرالله.. أيام حزب الله الصعبة

نصرالله
نصرالله

لم يحظ زعيم أو سياسى عربى بمثل ما تمتع به حسن نصرالله، الأمين العام لحزب الله، من شعبية إبان حرب تموز ٢٠٠٦، بيد أن شرارة الربيع العربى، التى اشتعل معها فتيل الأزمة السورية، كانت إيذانًا بانكسار حاجز التقديس، فقد حملت معها إرهاصات النهاية التى تجلت آياتها فى دلالات التصعيد الأخير مع اسرائيل. بعد خرق طائرتى استطلاع إسرائيليتين الضاحية الجنوبية لبيروت «معقل حزب الله»، بدا الحزب وكأنه يبحث عن مخرج، عملية تبدو كانتقام ولا تلزم إسرائيل بالرد، ذلك على الرغم من امتلاكه ترسانة ضخمة من الأسلحة والصواريخ الدقيقة ونمو قدراته العسكرية، بعد انخراطه فى الحرب السورية. ولم تكن ابتسامة الرضا الخجولة التى حرص الأمين العام لحزب الله على رسمها فى خطابه بعد الخرق، ليبدو وكأنه يتعاطى مع الموقف بهدوء المنتصر لا المعتدَى عليه، سوى مؤشر أخير على بداية «خريف نصرالله» وذبول الحزب الذى استلهم وجوده عربيًا وإسلاميًا من المواجهات مع الصهاينة، فقد كان الرد المحدود محاولة لحفظ ماء الوجه من جانب «نصرالله» الذى توعد، على وقع هتافات مناصريه وبعنتريته المعهودة، برد ساحق على الهجوم الإسرائيلى على لبنان «مهما كلف الثمن»، مؤكدًا انتهاء الزمن الذى تأتى فيه طائرات إسرائيلية تقصف مكانًا فى لبنان، وأن ما حصل لن يمر. لكن كيف وصل حزب الله إلى هذه النقطة؟.

الآلاف من عناصره قُتلوا فى سوريا والبراعة فى نصب الكمائن تراجعت
لا يمكن قراءة نزوع «نصرالله» إلى احتواء الأزمة مع تل أبيب بمعزل عن الواقع المأزوم للحزب بفعل ارتباطاته الإقليمية، فقد رمى الرجل إلى التغطية على مواطن الضعف التى طالت بنية الحزب بأقل تكلفة ممكنة، لاسيما إذا ما قورن الاستهداف الأخير بما دار فى حرب تموز ٢٠٠٦.
«نصرالله» لم يكن يومًا بتلك الانهزامية، فقبل نحو ثلاثة عشر عامًا خاض الأمين العام لحزب الله حرب تموز التى استمرت لمدة ٣٣ يومًا توج على إثرها بطلًا بالشارع العربى، ومع أن الآلة الدعائية للحزب، فضلًا عن المزاج الشعبى حينها أسهما بشكل كبير فى تضخيم المكاسب وتسويق الانتصار النسبى، فيما غضت إسرائيل الطرف عن ذلك لحسابات استراتيجية، فإن هذا لا ينفى حقيقة أنه نجح فى الإضرار نوعيًا بالجيش الإسرائيلى وإرساء قواعد الاشتباك التى منعت أى اعتداء على الحدود اللبنانية.
فى عام ٢٠٠٦ أتقن حزب الله حرب العصابات غير المتكافئة وحقق ما يُعرف باللغة العسكرية ردعًا نسبيًا لقوات الاحتلال، وهو ما لم يعد ممكنًا الآن عقب سقوطه فى المستنقع السورى، حيث يتطلب الأمر سنوات من التدريب لاستعادة لياقته بنصب الكمائن، ولعل هذا ما يفسر صمت «نصرالله» خلال السنوات الماضية على تعرض قواعده العسكرية فى سوريا لضربات إسرائيلية متتالية دون أن يحرك ساكنًا سوى بعض التصريحات الإعلامية التى لا تسمن ولا تغنى من جوع. ثمن الخطأ كان جسيمًا، فبالرغم من الخبرة القتالية التى اكتسبها حزب الله جراء الانخراط فى المحرقة الدمشقية، إذ تطورت قدرات مقاتليه على نحو لا يمكن تأمينه من خلال التدريبات التى تنظمها قياداته، وانتقل من حيز التكتيكات الدفاعية ونصب الكمائن إلى استراتيجية قتالية أكثر هجومية، علاوة على حصوله على كميات كبيرة من الأسلحة والذخيرة من إيران وسوريا، فخلال حرب ٢٠٠٦ قدرت تقارير موثوقة عدد صواريخ أرض- أرض التى يمتلكها الحزب بما بين ٢٠ و٣٠ ألف صاروخ، أما اليوم فهى تتحدث عن ١٠٠ و١٥٠ ألف صاروخ، فإنه بالمقابل وجد نفسه بمواجهة ورطة تكاد تعصف ببنيته العسكرية تمثلت فى سقوط كثير من المقاتلين وبينهم قادة ميدانيون من الصف الأول، وتذهب التقديرات إلى أن الحزب دفع بنحو ٨ آلاف مقاتل فى سوريا سقط منهم ما يتراوح بين ١٥٠٠ وألفين، وبجانب هؤلاء هناك أيضًا مئات من المصابين بإعاقات مستديمة.


أزمة مالية طاحنة بعد العقوبات على طهران وقطع خطوط الإمداد الخارجية
بجانب هذا الاستنزاف الذى لم يعرفه الحزب من قبل، بات «نصرالله» يواجه أزمة أخرى أشد خطورة، تتمثل فى انقسامات تتعاظم داخل صفوف الحزب بسبب الموقف من الحرب السورية، ما دفعه لتصفية بعض القيادات وتهديد آخرين وإبعاد بعضهم من صناعة القرار.
وقد تكشف ذلك بجلاء تام فى مايو ٢٠١٦، حيث تشير تقارير استخباراتية إلى أن مصطفى بدرالدين، القائد البارز السابق فى حزب الله، قد لقى مصرعه فى عملية اغتيال بناءً على أوامر شخصية من حسن نصرالله، بضغوط قاسم سليمانى، قائد فيلق القدس التابع للحرس الثورى الإيرانى، الذى كان على خلاف مع «بدرالدين» بشأن تداخل العمليات بين الطرفين داخل الأراضى السورية.
وعلى مشارف عقده السابع يبدو الأمين العام لأطول الأحزاب العسكرية عمرًا منهكًا ماليًا بفعل ارتباطه العضوى بإيران التى تزوده بنحو ٧٠٠ مليون دولار سنويًا من عائدات النفط، إذ انسحبت تأثيرات العقوبات الأمريكية المشددة على الحزب الذى بات فى وضع حرج فى ظل انخفاض التمويلات المقدمة من إيران وتحويل نسبة أكبر من ميزانية تمويل الميليشيات والأذرع الخارجية إلى الأنشطة العسكرية.
ولأن المصائب لا تأتى فرادى، فقد مثل تجفيف منابع «الاقتصاد الأسود» لحزب الله فى الحدود الثلاثية للأرجنتين والبرازيل وأوروجواى وأوروبا وسقوط شبكاته تباعًا، ضغطًا متزيدًا على «نصرالله» لاسيما أنها كانت تمثل مصادر إضافية للتمويل إلى جانب الدعم الإيرانى، حيث وضعت واشنطن ضمن استراتيجيتها فى مواجهة نظام طهران قطع الشرايين غير المشروعة للحزب وعمدت إلى الكشف عن تورطه فى مجموعة واسعة من «المؤسسات الإجرامية» فى جميع أنحاء العالم، ما دفع العديد من الدول إلى تتبع تلك الشبكات وتجميد أصول الحزب، والتى كان آخرها إعلان سلطات الأرجنتين فى يوليو الماضى تجميد أصول حزب الله وتصنيفه منظمة إرهابية.

التأييد الشعبى تراجع إلى أدنى حد.. وحالة الامتعاض امتدت إلى الشيعة اللبنانيين
اختبار مكامن القوة الشعبية لدى «نصرالله» يكشف عن إفلاسه جماهيريًا وتراجع مصداقيته لدى الشارع اللبنانى، فالصورة العملاقة وغير المسبوقة من حيث الحجم لأمين عام حزب الله التى وُضعت على الطريق الذى يصل المطار الدولى بوسط بيروت، ويبدو فيها أكبر من لبنان، تضاءلت كثيرًا فى أعين اللبنانيين، إذ لم يعد الحزب فى نظر الأكثرية غير ميليشيا طائفية.
لقد تعاطى حزب الله مع طوائف الشعب باعتبارهم مجرد قطع على رقعة شطرنج يجلس عليها لاعب واحد فقط هو «نصرالله» يحركها كيفما شاء. ولعل ما دار فى ٧ مايو عام ٢٠٠٨ ما يؤكد صدق تلك الفرضية، وذلك عندما قام الحزب باحتلال غرب العاصمة بيروت، وذلك بعد قيام الحكومة اللبنانية باتخاذ إجراءات ضد شبكة الاتصالات الخاصة به، مهددًا خصومه بالسلاح من قوى ١٤ أذار و«تيار المستقبل»، فى واحدة من أخطر الأحداث الميدانية عنفًا منذ انتهاء الحرب الأهلية، ما أفضى إلى تزعزع ثقة الجماهير به، حيث رأت الطوائف الأخرى فى تلك الحادثة إشارة إلى أن حزب الله قد يحتل لبنان بأكملها.
ومع أن سجل «نصرالله» حافل بوقائع أخرى مماثلة، منها خطاب قديم ألقاه حسن نصر الله عام ١٩٨٨ وسربته مؤخرًا قناة العربية، يتحدث فيه عن نية الحزب إقامة دولة إسلامية شيعية فى لبنان، فإن الانفضاض الشعبى من حول الحزب تحقق مع قراره بدعم نظام بشار الأسد فى سوريا، والمشاركة العسكرية فى الحرب الأهلية الدائرة بالرغم من الرفض الرسمى.
أضحى صعود الحزب لدى المواطنين مرادفًا صريحًا لـ«سقوط لبنان»، ليس بين الطوائف السنية والمسيحية فحسب، بل امتدت حالة الامتعاض من خيارات «نصرالله» إلى صفوف الشيعة اللبنانيين الذين أبدوا تحفظات بشأن سياسات الحزب، لاسيما أنه فشل فى الوفاء بوعود الانتخابات الأخيرة التى فاز بها، ليس لكونه الأكثر شعبية فى لبنان، بل لأنه استطاع التخلص من المعارضة وتمكين الحلفاء عن طريق تهديد السلاح.
الثقوب المتزايدة بالغطاء المقدس للحزب الذى أسسه فى الوجدان العربى من هالة المقاومة أفضت إلى انكماشه، وخلافًا لما كان يحدث فى ٢٠٠٦ أضحت خطب «نصرالله» جوفاء ومحل سخرية، ولم يعد أحد يضيع وقته للاستماع إليه، فقد تبدلت صورة زعيم حزب الله حين أضحت سياسة المقاومة ضد إسرائيل ثانوية مع تحوّل جل تركيزه إلى المقامرة السورية وتورطه بقتل مواطنين سوريين يفوق مئات المرات عدد من قتلهم من الإسرائيليين طيلة سنوات صراعه معهم التى تتجاوز ١٥ عامًا.
التجييش الطائفى وبروز الهوية السياسية المذهبية باعتبارها العنصر الحاسم لخيارات «نصرالله» ارتدت سلبًا لدى أغلبية من المسلمين السنة، فعلى الرغم من تدرجه فى الذرائع التى ساقها لتبرير دخوله إلى الساحة السورية بداية من حماية الشيعة اللبنانيين مرورًا بادعاءات مثل شن حرب استباقية لمنع التكفيريين من دخول لبنان، وهو الخطاب الذى استمر قرابة عامين، غير أن رفعه شعارات على غرار «لبيك يا حسين، لبيك يا صاحب الزمان، لبيك يا زينب لن تسبى زينب مرتين» وإعلان الحزب فيما بعد الغاية من هذا الانخراط وهى الحفاظ على النظام السورى استفزت المشاعر الطائفية لدى البعض لاسيما أن «نصرالله» تبنى خطابًا معاديًا لدول المنطقة اتهمه خلاله بالتقاعس عن نصرة فلسطين.
رهانات نصرالله الخاطئة واستغراقه الكامل فى المغامرة السورية أنهكته، وللمرة الأولى فى تاريخه يبدو الرجل الذى اعتاد أنصاره على رؤيته فى صورة الزعيم خائفًا ومرتبكًا يستجدى عون الأمريكيين والمتتبع لخطابه الأخير يلمس تناقضًا واضحًا بين ثنايا كلماته، فقد هدد وتوعد، لكنه بالوقت ذاته ناشد الحكومة اللبنانية التدخل لدى الإدارة الأمريكية لوقف الهجمات الإسرائيلية تارة أخرى، إذ قال حرفيًا: «إذا كان هناك أحد حريص بلبنان على ألا يحدث مشكل فليتحدث مع الأمريكى ليتحدث بدوره مع الإسرائيليين ينضبّوا».