محمود خليل يكتب: سيف التكفير على رقاب المسلمين
بدأت الدولة العباسية فى التحلل منذ عهد «المتوكل»، بسبب ميله الشديد إلى الاستعانة بالأتراك والاستكثار من المماليك، وجعلهم جندًا وسياج حماية له. وفى أواخر العصر العباسى واجه المسلمون الغزو التترى وزحف الصليبيين. وفى هذا السياق ظهر شيخ الإسلام «ابن تيمية»، وهو الفقيه الذى تعد كراساته البحثية مصدرًا أساسيًا من مصادر صياغة العقل السلفى المعاصر. فكل الجماعات- أيًا كان مسماها أو وصفها- ترشف من معينه. وقد اختلف الباحثون المعاصرون فى موقفهم من «ابن تيمية». فمنهم من يرى فيه الأب الشرعى لفكرة «الغلو والتكفير» التى يتبناها المتطرفون المعاصرون، ومنهم من يدافع عنه ويتهم العقل الذى نقل عما أنتجه من نصوص، ويتهمه بالخطأ فى استيعاب المفاهيم والأفكار التى قدمها شيخ الإسلام، وأن الرجل لم يترخص فى مسألة التكفير كما يظن البعض، بل كان حذرًا فى ذلك كل الحذر.
لا يظهر أثر إشكالية «إهدار السياقات» فى التعامل مع الرؤى والأفكار كما تبرز فى التعامل مع الكثير من الفتاوى والأحكام التى أطلقها «ابن تيمية» فى عصره، وحاول السلفيون النكوصيون إسقاطها على العصر الحالى. عاصر «ابن تيمية» الغزو التترى لبلاد المسلمين. وتقول حقائق التاريخ إن عددًا من قادة التتر أعلنوا إسلامهم، لكن «ابن تيمية» كان يرى أن ممارساتهم فى الواقع تقول عكس ذلك. أصيب المسلمون وقتها بحالة فتنة وبلبلة واحتاروا فى تحديد موقفهم من غزو يتم تحت راية الإسلام. كان من الطبيعى أن يلجأ المسلمون إلى فقيه عصرهم ليسألوه فى الأمر، فأفتاهم بأن قتال التتار واجب على المسلمين حتى ولو رفعوا راية الإسلام، واتهمهم فى دينهم وأنهم من الطائفة الممتنعة عن شريعة من شرائع الإسلام. وفى تقديرى أن العقل السياسى لابن تيمية حكمه وهو يصدر هذه الفتوى أكثر من العقل الدينى. فقد كان الفقيه جزءًا من المشهد السياسى فى عصره وكان على صلة وطيدة بسلاطين الشام ومصر، وقد تجول بين البلدين يدعو الحكام والشعوب إلى مواجهة التتار بعد احتلالهم بغداد، ليس ذلك فقط بل لقد حمل «ابن تيمية» السيف، وبادر إلى المشاركة فى دفع التتار عن الشام.
مسألة التكفير التى دمغ بها «ابن تيمية» التتار، تنسف كل الدفاعات التى يقدمها البعض ويستندون فيها إلى ما كتب «ابن تيمية» وتحذيراته من التكفير، وخصوصًا قوله بأنه «لا يكفر أحدًا من أهل القبلة»، وقد أوقعته وأوقعت من نقلوا عنه وتأثروا به فى مأزق الخلط بين «الدين والسياسة». دعوة «ابن تيمية» إلى قتال التتار لها الكثير من المبررات السياسية المقنعة، ولم تكن تحتاج إلى مبررات دينية من أى نوع. والمسألة لم تكن فى إسلام أو عدم إسلام التتار، لأنهم ببساطة كانوا غزاة دمويين لم يتوانوا عن سحق جماجم المسلمين الذين احتلوا أرضهم وديارهم، ولم يرقبوا فى شيخ أو طفل أو رجل أو امرأة إلا ولا ذمة، وبالتالى فقد كان من حق الشعوب المعرضة للغزو أن تدافع عن نفسها، دون نظر إلى ديانة الغازى، فالغزو لا يبرره دين، وإهراق الدم لا تبرره عقيدة، والمدافع عن أرضه وماله وعرضه ليس بحاجة إلى فتوى من شيخ لكى يدفع ويدافع عن نفسه.
يذكر التاريخ أن واحدًا من أشهر قادة التتار ممن أعلنوا إسلامهم، قاموا بمجازر لم يسبق لها مثيل فى الدول الإسلامية التى فتحها. إنه تيمور لنك القائد المغولى الذى أعلن إسلامه وفى الوقت نفسه دهس بلاد المسلمين وفعل بهم الأفاعيل، ومن بعده قام بنو عثمان بغزو ديار المسلمين وخلفوا بحورًا من الدماء وراء هذا الغزو. لقد عاصر «ابن تيمية» الزمن الذى كان يسيطر فيه المماليك والأتراك على ربوع العالم الإسلامى، وكل هؤلاء كانوا يصنفون أنفسهم مسلمين، ورغم ذلك لم يكونوا يتورعون حال غزو غيرهم من المسلمين عن ارتكاب المذابح والمجازر بصور مختلفة سجلتها كتب التاريخ. واقع الحال أن الحروب تعكس صراعات سياسية أكثر مما تعكس منافسة دينية. وكذلك كانت الحروب التى عاصرها «ابن تيمية» ضد التتار الذين أفتى بعدم إسلامهم رغم إعلانهم الإسلام. ويذكر التاريخ أيضًا أنه بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم وقع العديد من الفتن التى تمكن كل من أبى بكر وعمر رضى الله عنهما من وأدها فى مهدها، لكنها تحولت إلى اقتتال داخلى فى عصر عثمان ثم على ثم معاوية وخلفائه، كان صحابة النبى صلى الله عليه وسلم يعلمون أن الصراع بينهم لا يتجاوز عتبة السياسة، لذا لم يتورط أى منهم فى تكفير خصمه، بل كانوا يتقاتلون بالنهار، ثم يساعدون بعضهم بعضًا فى دفن قتلاهم آخر الليل!. فالمسألة فى الأول والآخر كانت سياسة وليست دينًا. وليس أدل على ذلك من أن نتيجة هذا الصراع تثبت أن الأشخاص الذين كانوا أكثر قدرة واحترافية على المستوى السياسى حسموا الصراع لصالحهم فى النهاية، مثلما فعل معاوية بن أبى سفيان فى صراعه مع على بن أبى طالب رضى الله عنهما.
عدم تفرقة «ابن تيمية» بين ما هو سياسة وما هو دين عندما أفتى بكفر التتار، وعدم التفرقة بين الوجاهة السياسية والوجاهة الدينية للفتوى، خلّف مشكلة كبرى فى العقل الإسلامى. فقد نقل كثير من منظرى الفكر التكفيرى فتاوى ابن تيمية دون أن يفطنوا إلى الخلط الذى وقع فيه، ودون وعى بالسياقات التى أنتج فيها الفقيه فتاواه الخطيرة وأسقطوها على الواقع. تذكر وقائع التاريخ المعاصر أن محمد عبدالسلام فرج أمير جماعة الجهاد مؤلف كتيب «الفريضة الغائبة» الذى خطط لاغتيال الرئيس الشهيد أنور السادات فى حادث المنصة الشهير عام ١٩٨١، تأثر فى كتيبه هذا بآراء وأفكار وفتاوى «ابن تيمية» ومن قبله تأثر صالح سرية وشكرى مصطفى وجهيمان العتيبى بالأفكار ذاتها، ومن بعده تأثر تنظيم قاعدة الجهاد وتنظيم داعش بذات الأفكار والرؤى والفتاوى. وكانت النتيجة دماء أهرقت وأرواحًا أزهقت وبشرًا فقدوا حياتهم بلا ذنب ولا جريرة، وكان السر فى ذلك هو تشبث الأجيال الجديدة من المسلمين بأفكار من زمن فات ورفع أصحابها إلى مراتب عالية، ليظل الماضى المتسلّف حاكمًا للحاضر المتطرف.