أميرة ملش تكتب: مصاريف التعليم الجيد.. مأساة
نشر أحد الأصدقاء علي صفحته في مواقع التواصل الإجتماعي رسالة أحد الأساتذة الجامعيين لطلابه فى مرحلة الماجستير والدكتوراه والبكالوريوس، وضعها فى مدخل الكلية فى الجامعة بجنوب إفريقيا.. قال فيها: «تدمير أى أمة لا يحتاج إلى قنابل نووية أو صواريخ بعيدة المدى، ولكن يحتاج إلى تخفيض نوعية التعليم والسماح للطلاب بالغش، يموت المريض على يد طبيب نجح بالغش.. وتنهار البيوت على يد مهندس نجح بالغش، ونخسر الأموال على يد محاسب نجح بالغش، وتموت الإنسانية على يد رجل دين نجح بالغش، ويضيع العدل على يد قاض نجح بالغش، ويتفشى الجهل فى عقول الأبناء على يد معلم نجح بالغش.. انهيار التعليم يساوى انهيار أمة».
تقريبًا رسالة الأستاذ الجامعى كانت المختصر المفيد لمعنى التعليم وأهميته لبناء وتطور واستقرار الأوطان.. لا بلد على وجه الكرة الأرضية ينمو ويتقدم دون التعليم.. وبمعنى أدق دون تعليم قوى وحقيقى.. لأنه عندما يكون التعليم بخير، فمعنى ذلك أن الدولة بها أطباء مهرة، وهو ما ينعكس على صحة المواطنين بالإيجاب، فيكون المواطن قويًا وعفيًا يصلح للعمل، وليس مريضًا وضعيفًا وفقيرًا يحتاج للإعانة، صحته لا تساعده على القيام بأى مهام أو أعمال.. ويكون لدى الدولة مهندسون أكفاء لبناء بيوت وأبراج ومنشآت قوية لا تسقط على دماغ الناس وتكلف الدولة ما لا طاقة لها به لما فى ذلك من خسائر فى الأرواح والأموال وضرورة توفير سكن آخر لمن هدم بيته.. ورجال أعمال أذكياء يساعدون فى تطوير وتنمية بلدهم.. ومدرسون لا يحتاج التلاميذ للجوء للدروس الخصوصية لتعويض شرحهم السيئ للدروس والمناهج.. كما أن الدولة تضمن أيضًا عمالًا مهرة، لأن الاهتمام بالتعليم الفنى يخرج عمالًا أكفاء يعملون وينتجون عن دراسة وفهم وليس فهلوة فقط.. إلى آخره.
لذلك فإن الازدهار والتقدم يحتاجان للتعليم الجيد لا مناص من ذلك، ولكن فى مصر التعليم الجيد يوجد فقط فى المدارس الخاصة والدولية.. لأن مدارس الحكومة خارج الخدمة منذ سنوات طويلة.. ومعنى ذلك أن الأسرة التى تريد أن يتعلم أبناؤها تعليمًا جيدًا تقريبًا «بتبيع هدومها».. ويكفى هذا التوقيت من كل عام مع اقتراب العام الدراسى الجديد، لندرك ذلك جيدًا من أحوال أولياء الأمور، المطالبين بدفع القسط الأول من مصاريف المدرسة لأبنائهم، وإلا لن يلحقوا بالمدرسة، والأسر المهتمة بتعليم أبنائها تعليمًا جيدًا معظمها من الطبقة الوسطى، وهذا يكفى لمعرفة كم البؤس والمعاناة التى يعيشها هؤلاء هذه الأيام.. ففى غياب الرقابة الصارمة من وزارة التعليم، ترفع المدارس مصاريفها بشكل جنونى وليس المصاريف فقط، بل إن هناك ملحقات أخرى، وهى تفاصيل مثل الكتب والأتوبيس المدرسى والزى وما يسمى البلاى لست وتعنى الأدوات المدرسية التى يستخدمها التلميذ على مدار يومه فى المدرسة.. أى أن هذه المدارس لا ترحم خاصة المدارس الدولية، وكأنهم يستغلون حاجة الناس لهم فى غياب جودة التعليم الحكومى.
أسعار المدارس الخاصة والدولية تقريبًا تتضاعف كل عام عن الآخر، وتجد الأسرة نفسها ما بين اختيارين كلاهما صعب، إما الدفع أو عدم ذهاب الأولاد للمدرسة.. مع التفكير فى نقل الأولاد إلى مدرسة أخرى العام القادم، أقل فى المصاريف وأقل بالطبع فى المستوى، لتكون التضحية هنا بمستوى التعليم الذى يتلقاه الطالب. وهنا تكمن الأزمة التى من الضرورة بمكان أن تجد لها وزارة التعليم حلًا عاجلًا ومناسبًا.. وهى أن التعليم الجيد الذى يخرج لنا جيلًا من الأطباء والمهندسين والمحاسبين وفى كل المجالات يصلح لتطوير وتنمية البلد غالبًا لن يكون موجودًا لو لم يتلق تعليمه فى مدارس خاصة ودولية، لأنها بالفعل الوحيدة التى تقدم تعليمًا حقيقيًا، وفى كل بلدان العالم التعليم ما قبل الجامعى هو الأهم والأساس، ونرى ذلك فى دول، مثل: ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية، فهى دول تهتم كل الاهتمام بالتعليم قبل الجامعى، لدرجة أن المرحلة الابتدائية يدرس فيها أهم وأكفأ المدرسين وأحيانًا تصل إلى أن أساتذة الجامعات يدرسون لهذه المراحل.. ولكن هذه المدارس فى مصر تغالى فى مصاريفها لدرجة الفُجر.. فهى أصبحت سببًا فى إفلاس أسر بالفعل، كما أنها أيضًا تغرب التلاميذ عن بلادهم وتجعلهم بشكل ما يحتقرون أوطانهم ويتمنون الهجرة منها، فهى كذلك تخلق بشكل حقيقى ومستفز مشكلة من نوع آخر غير المصاريف الباهظة، وهى الانتماء للبلد ولأهله. فهى تخرب العلاقة بين الطالب وبلده، وتجعل مشاعره فاترة لوطنه. وبشكل صريح لعل المشكلة تكمن أولًا فى عدم وجود مدارس حكومية تقدم نفس جودة التعليم الذى تقدمه هذه المدارس حتى لو كانت بمصاريف، ولكنها بالتأكيد لن تكون بجنون المدارس الخاصة، وأعتقد أن الاهتمام بالتعليم الحكومى عمومًا لا مفر منه، وثانيًا وضع رقابة صارمة من الدولة ووزارة التعليم على هذه المدارس، حتى لا ترتفع مصاريفها كل عام بهذا الشكل غير المعقول.. لأن المفترض أن تحقيق التعليم والمنفعة هو الهدف الأول وليس البيزنس والفلوس.. فقد تحول التعليم للأسف في المدارس الدولية والمدارس الخاصة إلى بيزنس وسبوبة.