رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كوميديا بديع خيرى.. والضحكة اللى من القلب



يبدو بالفعل أن الضحك فى النهاية هو مجرد فائض للطاقة الإنسانية، وعلى المرء أن يجد له متنفسًا ليخرج هذه الطاقة من جسده، والطاقة الفائضة التى يثيرها الإحساس بالسرور والبهجة لا بد أن تبحث لها عن منفذ من خلال الظاهرة الصوتية المتعلقة بعملية التنفس، والتى نطلق عليها الضحك، وهو ما ذكره «هربرت سبنسر» فى كتابه الشهير
The Physiology of laughter.
عبر تراث هائل للثقافة الشعبية المصرية نجد ونتابع رصيدًا هائلًا من المواقف الطريفة والفكاهية، ويرى أهل التنظير أنها تمثل مجموعة من الحكاوى والمواقف التى قد تبدو مؤلمة تارة ومضحكة تارة أخرى، ولعل ذلك يعد السبب الجوهرى فى أن الشعب المصرى هو بالسليقة «فُكهى» وساخر، فالسخرية من أهم الموروثات لدى الشعب المصرى عبر التاريخ، فهى التى يجد فيها المادة والمناخ المناسبين لمعارضة السلطات فى كل مستوياتها الهرمية على مر السنين.
ولكن- للأسف- تبدو الدراما الكوميدية فى معظمها الآن فى غاية السطحية فيما يتم تناوله من قضايا، حيث التجريف الجاهل للقيم الإيجابية والأخلاق والعادات والتقاليد الأصيلة المصرية، فهم يرون «الأصالة» أنها لون من التخلف الاجتماعى فى عصر العلم والتكنولوجيا، ويدعم ذلك التوجه مواقع التشرذم الاجتماعى، بعد أن أصابها الترهل و«الاستعباط والاستهبال»، حيث الألفاظ الخارجة، التى لا يمكن أن تجلب لنا ذلك النوع من الضحك النابع من القلب، والذى له دور مهم فى صميم حياتنا النفسية والاجتماعية المصرية.
ولعلنا نتفق مع «صمويل جونسون» عندما قال: «اختلف الناس فى الطريقة التى يعبرون بها عن حكمتهم، ولكنهم اتفقوا على الطريقة التى يضحكون بها»، والضحك، فوق هذا وذاك، ابتهاج بالحياة، أو كما عبر عنه فولستاف، ذلك الضاحك طيب القلب فى قوله لجمهوره: «تحبون الدنيا؟.. إذن لأستخدمن فنى فى إقناعكم بأنها هكذا فعلًا».
والحديث عن الدراما الكوميدية قد يكون مناسبًا، وقد تجاوزنا بأيام قليلة «١٨ أغسطس» ذكرى يوم ميلاد «بديع خيرى»، المبدع الأول والمتقن صناعة وحرفة وفن الكتابة الكوميدية المصرية الرائعة، المثال والنموذج الذى ينبغى الإفادة من منهج مدرسته الخالدة.
وعن توءم روحه ورفيق دربه الإبداعى الفنان «نجيب الريحانى» كتب «بديع خيرى» فى مذكراته: «عندما جاء دورى للتوقيع على أول عقد مع نجيب الريحانى ضحكت، فسآلنى عن السبب فأشرت إلى تاريخ العقد، كان التاريخ ١٨ أب، أغسطس ١٩١٨، ولم يفهم الريحانى شيئًا، فقلت له إننى أضحك لأن تاريخ ميلادى هو يوم ١٨ آب ١٨٩٣... وفعلًا كان هذا العقد هو تاريخ مولدى الحقيقى.. تاريخ مولدى المسرحى وتاريخ عمل عظيم وصداقة عظيمة بينى وبين نجيب الريحانى استمرت حتى يوم وفاته سنة ١٩٤٩».
وقد عاش «خيرى» فى العديد من الأحياء الشعبية، زبونًا على مقاهيها التى كان يتردد عليها العديد من الشخصيات العامة، وساعده على ذلك ثقافته الواسعة الناتجة من قراءته الغزيرة باللغتين الإنجليزية والفرنسية واطلاعه الواسع على الآداب العربية، خاصة الشعر والزجل اللذين أجادهما منذ الصغر.
يقول السيناريست «مصطفى محرم» إن الصدف قد لعبت دورها فى حياة «خيرى ومشواره الإبداعى..» قامت فرقة نادى التمثيل العصرى بتقديم مسرحية بديع خيرى الأولى على مسرح الإجيبسيانا، وهو المسرح الذى كان يقدم فيه نجيب الريحانى عروضه، وكانت فرقة الهواة تستأجر المسرح نهارًا فى الأيام التى يقدم فيها الريحانى حفلاته المسائية، واستمرت فرقة الهواة فى تقديم مسرحية «أما حتة ورطة» بنجاح كبير وسط تشجيع الأهل والأقارب والأصدقاء، الذين كانوا يحصلون على دعوات مجانية من أجل مساعدة أفراد الفرقة والتصفيق لهم، وفى أحد الأيام دخل عليهم أحد أعضاء الفرقة، وكان يدعى «جورج شفتش»، فأخبرهم وهو يحاول أن يلتقط أنفاسه من شدة الانفعال بأن «نجيب الريحانى» يتفرج عليهم، يقول «بديع خيرى» فى ذلك: «بقى نجيب الريحانى ليلتها إلى آخر المسرحية، وكان المتفرج الوحيد الذى صفق تقديرًا لفننا وليس مقابل دعوتنا المجانية».. فى تلك الفترة كان بديع خيرى يخفى اسمه ولا يضعه على إعلانات المسرحية خشية أن يفقد وظيفته كمدرّس محترم. وعندما سأل نجيب الريحانى جورج شفتش عن اسم مؤلف المسرحية ادعى هذا الأخير أنه هو، وظلت الأمور مخفية إلى أن قام أحدهم بإفشاء السر، وبدأ التعاون بين الرجلين والذى استمر حتى وفاة الريحانى.
وحكاية بديع خيرى مع السينما قديمة العهد، إذ نسمعه يقول فى مذكراته: لعلنى المؤلف الوحيد الذى اشتغل فى السينما وهى صامتة قبل أن تنطق فى فيلم «المندوبان» الذى عرض فى سينما كوزمو.
لا شك أن إنجاز بديع خيرى الحقيقى فى السينما المصرية كان فى ميدان كتابة الحوار السينمائى وكتابة أغانى الأفلام والاستعراضات، لقد بدأ بديع خيرى عمله فى السينما المصرية فى زمن كان الحوار يتعثر فى جمله وألفاظه، وكان خليطًا من لغات مختلفة، وفى الزمن الذى أضحت فيه للحوار السينمائى أهمية كبـرى، استمر بديـع خيرى.
ومن منا يمكن أن ينسى فيلم «غزل البنات» وحوار بديع خيرى، الذى شارك فيه نجيب الريحانى، وكانت كل جملة فيه عبارة عن إيقاع لحركة حياة مضبوطة، لتخرج فى كل سؤال ورد بهدف اجتماعى وأحيانًا سياسى وإنسانى.
فالحوار بين الباشا وأستاذ «حمام»، الذى ظن أنه الجناينى، والكلام بين حمام والرجل المسئول عن الكلب، ومحادثة المسئول عن القهوة، جميعها تنطوى على مباريات حوارية تشير إلى العديد من القضايا منها تبعات الفوارق بين الطبقات، والفوارق الثقافية والإنسانية.. فما يراه «حمام» أنه بالتأكيد «الباشا» يكتشف أنه مسئول عن رعاية كلبه، وما يراه «حمام» أنه الجناينى يكتشف أنه الباشا، وفى المقابل ما يراه الباشا من حروف هى من «أخوات كان» لا بد أن يعترف بها «حمام»، ليحافظ على لقمة عيشه.