رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حكاية الجوع الذى أكل الروح.. عن رواية "خبز السنوات الأولى" للكاتب هاينريش بل

جريدة الدستور

حين يقتحم الماضى الكبير رأسك الصغير يطيح بالحاضر والمستقبل، وقتها تشعر بأنك ذرة رماد هوت بها الريح فى مكان سحيق.
لا أدرى ما لذى دفعنى لاستدعاء تلك الأيام الغابرة، وأنا ألصق كفى بكف والدي ونحن متجهون إلى بيت السيد فوندال، كى يقوم والدى باعطاء الحصة الدراسية لابنه الخجول، حتى إذا ما طرق والدي باب البيت خرج فوندال لاستقبالنا، وما أن نجلس حول المنضدة حتى يأتى لنا برغيف خبز نقسمه إلى 3 أجزاء..جزء لى وجزء لوالدي وجزء لوالدتى المريضة.
إنها السنوات العجاف التى جعلتنا فيها الحرب نقّيم الأشياء بما يعادلها من الحساء، كان يوم الأحد هو موعد الدرس لابن فوندال، وفى آخر تلك الأحاد فتح لنا فوندا باب بيته ولكنه لم يفتح باب قلبه، وكأننا طعام فاسد وجب عليه أن يتجشأه ليطهر معدته وأمعاءه، نظر إلينا بوجه متجهم وكأنه أضحى تمثالا بلا روح، أو كأنه تحول إلى شيطان تجمعت فيه كل الأرواح الخبيثه، رجع أبي للوراء وجرّنى فى ذيله.
علمنا وقتها أنه لا خبز بعد اليوم من بيت فوندال، قال والدي وهو يقبض على كفي كان علي أن امنح ابنه 5 درجات بالأمس.
كانت الحرب تطحن أبناء الوطن كما تطحن الرحى حبات القمح، التحقت بمدرسة للتأهيل المهنى وكانت السيدة ميتشل تنعتنى دوما بالغباء، فاجتهدت حتى أجبرها على تغيير وجهة نظرها، ولما رأت منى نباهة قالت: ليست النباهة دليل النجاح قد يكون المرء نبيها وفاشلًا. تعلمت النجارة والطبخ، ثم التحقت بعد سنوات بالعمل لدى ورشة السيد فكفهير، وتعلمت تصليح الغسالات بمهارة فائقة.
الذاكرة تعود بى إلى ذاك اليوم الذى سرقت فيه 20 فرانكا واشتريت بها خبزا، رغم أننى كنت أحتاج لرغيف أو اثنين وكان لدي من المال ما يكفى لشراء 10 أرغفة، لكن الجوع الذى كان يحتل كيانى منذ الصغر أومئ لى بذلك فطاوعته، كنت أدس الخبز فى معطفي وفى الدولاب، وربما كنت أود أن أحتفظ به فى حافظة نقودي.
استوقفنى فكفهير فسألنى بصرامة شديدة هل سرقت فقلت نعم. وبرغم مرور 6 سنوات على هذا الموقف إلا أننى لا زلت أذكره ولست نادما عليها ولا فخور به، ألم اقل لك الجوع أومئ لى بذلك فأطعته.
صبيحة اليوم طرقت على غرفتي صاحبة البيت، تلك المرأة الأربعينية الجميلة التى عشقتها كما لم أعشق أمرأة من قبل، ولكني كنت أكتفى بالنظر إلى ملابسها المعلقة على حبل الغسيل، دون أن أخبرها بعشقى لقوامها الجميل، ودون أن أخبرها أنى أحقد على زوجها السكّير الذى يكبرها بأعوام.
المدهش فى الأمر أنها كانت تحبه دون علّة واضحة أو سبب حقيقى لهذا الحب.ناولتنى خطابا أرسله أبى، ارتعدت فرائصى فأبى لم يرسل لى إلا خطابين طيله السنوات الست الماضية أولهما حين ماتت أمى والثانية حين كسر ساقه.
قمت بفض الرسالة على عجل، قال لي أبى فى رسالته إن هيدفيج ابنة السيد مولر قادمة إلى المدينة اليوم وعلىّ انتظارها بمحطة القطار، كما أوصانى بأن أحمل معي باقة ورد.
حاولت استرجاع صورة هيدفيج بكل الطرق لكنى لم أستطع، منذ 10 سنوات لم أرها كانت صغيرة وشقراء هذا كل ما أذكره.. منذ 3 أشهر أرسل لى مولر خطابا يطلب منى فيه أن استأجرغرفة لابنته التى ستحضر لتعمل بالتدريس فى الدينة، واشترط ألا تكون الغرفة غالية ولا رخيصة، وبالفعل استأجرت لها غرفة فى شارع كوريل القريب من الكنيسه وحارة اليهود. ولما مر أسبوعا ولم تأت أرسلت له خطابا ليرسل لي النقود، فأخبرنى فى خطاب الرد أن ابنته ستتاخر لـ3 أشهر فأرسلت إليه رسالة أخرى طالبته بالايجار لثلاثة أشهر، فأرسل المبلغ كاملا ولكن من خلال سطورة استنتجت أنه ارسلها على مضض.
واليوم موعد الوصول هيدفيج فى تمام السابعة مساء، قمت بالتجوال فى ضواحي المدينة لاصلاح الغسالات المعطلة، ثم توجهت بسيارتى إلى المحطة لاستقبال هيدفيج التى لا أعرف ملامحها فلمحت السيدة فينشيل فى الشارع فأوقفت سيارتي وذكرتها بنفسى وطلبت منها أن تركب معي لأوصلها إلى المكان الذى تريد فقالت أن يمتلك المرء سيارة هذا ليس دليلا على أنها ناجحا فتركتها وانصرفت.
دخلت المحطة، ثم وقفت أتفحص وجوه الفتيات اللواتي فى مثل عمر هيدفيج، ولكني لم ألفت انتباه أى منهن، فاخترت الانتظار حتى تتبقى آخر فتاة لا تدرى لها وجهة، وحسنا فعلت رأيتها جالسه بجوار حقيبتها، فتاه بيضاء فارعة الطول لها وجه قمري وعينان قرمزيتان وشفتين ممتلئتين.
ولما اقتربت منها ابتسمت، فعلمت أنها هي وعلمت بأنها مازالت تتتذكرملامحي، تحركنا من المحطة وركبنا السيارة ثم توجهنا إلى حارة اليهود ثم انعطفنا إلى شارع كوريل حيث غرفتها.. جال بخاطرى أن أقبلها فحدقت النظر في عينى وقالت: رجاء أخرج لاستريح وبعد ساعة تعالى لنتجول فى المدينة.
نزلت من البيت ولا أدرى ما الذى دفعنى للانتظار واقفا أمام بيتها وأحرق كل هذه السجائر فى صدري، وبعد انقضاء الساعة صعدت إليها ثم خرجنا إلى أحد المطاعم وجئت لها ببعض الفطائر، ثم تذكرت أننى لابد وأن التقى علا ابنة فكفهير لانهاء علاقتى بها للأبد، لم تبد هيدفيج أى اعتراض أو انزعاج بل قالت:"ان كنت لا تحبها أفعل".
فقلت ساعة واحده وسأعود اليك. التقيت علا فى مقهى يوس وأفرغت أمامها بما يدور فى عقلى فقالت بحدة: سرقت والدي قديما وسامحناك. فقلت إن كنت سرقت والدك مرة فقد سرقنى والدك ألف مرة، فقالت:تحصلون على رواتب عالية وتتناولون أنت وزملائك وجبة عدس يومية، فقلت تلك الوجبة التى تصيبنا بالغثيان اليومى، لقد سرق والدك أعمارنا انظرى إلى حساباتكم فى البنوك إنها تبنى أهراما من الخبز.
رجعت إلى هيدفيج فوجدتها تقف أمام المقهى الذى أغلق منذ نصف ساعة، ألقت بنفسها داخل السيارة بسرعه وقالت: رجل وقف أمامى وطلب منى الذهاب إلى بيته أو إلى بيتى فخفته، فتحركتُ بالسيارة دون وجهة فقالت: سأذهب معك إلى غرفتك، كان جمالها طاغيا لذا وافقتها دخلنا البيت دون أن نتحدث حتى لا تسمعنا صاحبة البيت ثم دخلنا الغرفة دون أن نوقد المصباح "فاذا بطرقات على الباب نعم أنها صاحبة المنزل، سألتني وهى غاضبة من التى دخلت معك ؟ فقلت
: هيدفيج فقالت: هل تزوجتها ؟ قلت نعم.. فرمقتنى بنظرات يتطاير منها الشرر وقالت لا بقاء لك فى بيتى.
خرجت متأبطا ذراع هيدفيج إلى الشارع، ثم ركبنا السيارة وانطلقنا وفى وسط الطريق استخرجت قطعة من الخبز كانت فى معطفى فاقتسمتها معها فاندهشت وقالت: لماذا تحتفظ بالخبز فى معطفك كالأطفال فقلت: إنه الجوع القديم يا حبيبتى الذى يذكرنى بخبز السنوات الأولى.
(عن رواية "خبز السنوات الأولى" للكاتب هاينريش بل- سلسلة الجوائز- الهيئة المصرية للكتاب- ترجمة حسن الحديدي)