رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الرومى والتبريزى.. شمسان أنارا القلوب


جاءنا من الأنباء الماضية أن الدنيا تكالبت على مولانا جلال الدين، فقد ماتت زوجته، ومات أبوه، والدنيا إذا تكالبت على أحد إما أن تقضى عليه وإما أن يقضى عليها، فأنتم تعلمون أن هناك من تدور به الدنيا، وهذا هو الذى يُقضى عليه، وهناك من يُدير الدنيا، وهذا هو الذى يقضى عليها، إذ إنه تخلَّق حين أدار الدنيا بومضة من ومضات أسماء الله الحسنى، ومضة من «القادر»، وأسماء الله هى للتخلق، والتعلق، والتحلق، وقد كان من هؤلاء الذين تخلقوا وتعلقوا وتحلقوا مولانا جلال الدين، ذلك الشاب الذى كان أبوه لا يناديه مذ كان طفلًا صغيرًا إلا بـ«مولانا»، وكأنه كان يعرف مستقبل ابنه.
جلس مولانا جلال الرومى للتدريس فى مدرسة «قونية» بعد وفاة أبيه، ثم ما لبث أن ترك التدريس فسافر إلى حلب، ثم إلى الشام وجلس مع علمائها، وأخذ منهم وحاورهم، وفى عام واحد توفى شيخه برهان الدين محقق ترمذى، وشيخه المعنوى الذى تعلم من كتبه الشيخ الأكبر محيى الدين بن عربى، ولكن القدر لم يمهله، فكان أن عاد مولانا جلال الدين إلى «قونية» ليأخذ مكانته الدينية فيها، خطيبًا وعالمًا يجذب النفوس والقلوب، وبين ليلة وأخرى أضحى مولانا جلال الدين هو الفقيه الأكبر فى قونية، وكانت مهابته تسبقه فى أى مكان، وما استطاع أحد من فقهاء المذاهب أن يكون ندًا له، وكان حديث مولانا للناس فى أغلبه عن العقيدة، وبعضه عن العبادات، وأقله عن الشرائع، وفى كل هذا كان يدور حول الرحمة والحب، وكان الناس يتعجبون منه فى بادئ الأمر عندما يطلب فى أدعيته الرحمة لكل البشر، وكان تعجبهم يزداد وهو يطلب من المسلمين أن يحبوا كل الناس، حتى الكافر منهم، ثم سرعان ما أصبحت هذه الأدعية هى المنهج الذى يسير عليه خطباء تلك المدينة، إذ كان مولانا قد ترك فيهم أثرًا كبيرًا، ويومًا بعد يوم أصبح المصلون خلفه فى صلاة الجمعة أكثر من ألفين، وأصبح تلاميذه الذين يحضرون دروسه أكثر من خمسمائة، ومولانا فى ذات الوقت وسيمًا، بهى الطلعة، فالله سبحانه يهب الرجل قبل أن يصل الأربعين الوجه الذى يستحقه.
وها هى لحظة اللقاء تقترب، فقد دخل شمس التبريزى إلى قونية، وقادته روحه إلى المسجد الذى يخطب فيه مولانا، ويجلس التبريزى ليستمع إلى الخطبة، ووجيب قلبه يتصاعد، وكأنه صاح فى نفسه: هذا هو صاحب الوجه المخفى، أزاح الله الستار عن قلبى فرأيته! وعندما انتهت الخطبة والصلاة، وخرج مولانا من المسجد، إذا بالتبريزى بقامته الطويلة، وثوبه الأسود الخشن، يُسرع خلفه قائلًا: يا مولانا، هل تسمح لى بسؤال؟ فينظر مولانا إلى ذلك الرجل العجوز الذى يظنه الرائى فى منتصف الأربعين من عمره فى حين أنه كان قد وصل إلى الستين بالكاد، وقال له: سل ما تريد؟
فيقول التبريزى: أيهما عرف ربه حقًا، محمد، عليه الصلاة والسلام، أم أبواليزيد البسطامى؟ وكاد مولانا أن يشيح له بوجهه، وامتدت يد الأتباع لتبعد ذلك الرجل الذى أيقن الجميع أنه من المجاذيب، ولكن شمس التبريزى يبادره قائلًا: أنت تعلم أن سيدنا محمدًا كان يدعو الله أن يغفر له، فى حين أن أبا اليزيد البسطامى كان يقول: سبحانى ما أعظم شانى، وكان يقول إن الله تحت جبتى، فعاد مولانا جلال الدين ونظر إليه وهو يقول: ماذا تريد يا رجل؟ هذا سؤالٌ لا يسأله مسلم، فيعود التبريزى قائلًا: ولكننى أريد الإجابة، فيطرق مولانا قليلًا إلى الأرض، ثم يقول: إن الرسول أعرف بالله من أبى اليزيد البسطامى، ولم تكن الإجابة هى المعضلة، ولكن المشكلة هى ما وراء السؤال من مغزى، فشمس التبريزى كان يريد أن يقول لمولانا: إن هناك من ارتوى من العشق الإلهى لمجرد أنه نهل من هذا العشق جرعة صغيرة، فظن أنه عرف الله وأن الله يجرى فى عروقه، ولكن الرسول ظل ينهل من نهر العشق الإلهى ولم يرتوِ أبدًا، كان الإناء الذى يحمله البسطامى صغيرًا جدًا، وكان إناء الرسول أكبر مما يتخيله أحد، ففهم مولانا جلال الدين أن هذا الرجل صاحب الثوب الأسود يقول له: إنك لم تعرف الله بعد، ولم تنهل من نهر عشقه بعد، فلا تظن أنك عرفته، وعشقته، لا تكن مثل البسطامى الذى ظن أنه بلغ أعلى مراتب العلم، وكن مثل الرسول، عليه الصلاة والسلام، «وقل ربى زدنى علمًا».
منذ هذه اللحظة انقلبت أحوال مولانا، وعرف أنه لا يزال فى أول الطريق، بل إنه لم يقترب من نهر العشق الإلهى بعد، فطلب من التبريزى أن يذهب معه إلى بيته لكى يستمع منه، ومنذ أول لحظة أصيب مولانا جلال الدين بدهشة عظيمة! ما هذا أيها الناس، هذا علمٌ لم يسمعه من أحد قبل ذلك، وخلال أربعين يومًا انعزل فيها مولانا جلال الدين عن الدنيا كلها، وأخذ يتعلم من أستاذه وشيخه التبريزى، وكان التبريزى يلقن قلبه «قواعد العشق الأربعون»، فكان يقول له: «أنا لم آت لأعطيك شيئًا جديدًا، ولكننى أتيت لأستخرج جمالًا لم تكن تعرف أنه موجود فيك»، وكان يقول أيضًا فى إحدى قواعد العشق: «ابحث عن الله فى داخلك فإن لم يكن فيك فلن تجده أبدًا»، وكان يقول أيضًا: «أيها القلب تخل عن كل شىء يكن لك كل شىء».
ويخرج الرجلان من عزلتهما، ولكن قلوب تلاميذ مولانا جلال الدين تشتعل غيرة، فلا يلبث شمس الدين التبريزى إلا أن يغادر قونية، وكان هذا الفراق هو الأكثر وطأة على قلب مولانا، فقد صار تلميذًا لأستاذ لا نظير له فى العالم، أستاذ أرشده إلى أن كل عبادة فى العالم ولو كانت لحجر فإنها تقع لله رب العالمين، أستاذ عرف منه أن كل أديان العالم صحيحة، فكلهم فى الطريق إلى الله سائرون، كلهم يحبون الله، فهل يبغض الناس بعضهم لأنهم يحبون الله بطرق مختلفة وبتصورات متنوعة، ويرسل مولانا جلال الدين المراسيل لتبحث عن أستاذه، فيعود الأستاذ، ثم ما يلبث أن يختفى مرة أخرى اختفاء لا عودة منه، وقال التاريخ إن تلاميذ مولانا قتلوا التبريزى، ونقلوا أيضًا أنه لم يُقتل وأنه مات فى دمشق، أو مات فى مدينة «خوى» الفارسية ودفن فيها، وفى كل الأحوال كانت مهمته قد انتهت، فقد وضع النورَ فى القلب البلورى لصاحب الوجه المخفى، فكتب مولانا جلال الدين كتابه الأشهر «المثنوى،» وهو عبارة عن قصيدة شعر مكونة من آلاف الأبيات تسع الإنسانية جمعاء، كتب فيها قواعد العشق الإلهى التى تعلمها من شمس التبريزى، وسبحان الله، عندما قامت أمريكا بغزو أفغانستان قام بعض المستشرقين بترجمة كتابه «المثنوى» إلى الإنجليزية، فمولانا جلال الدين من أهل بلخ الأفغانية كما عرفنا، فأقبل الغرب كله على ذلك الكتاب حتى بيع منه أكثر من خمسين مليون نسخة، فقد وجدوا فيه منظومة للمصالحة الإنسانية والتوافق البشرى، وأخذ الروائيون فى العالم من مادة هذا الكتاب مصدرًا لرواياتهم، رحمهما الله، فقد ألهما البشرية.