رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ولي ومريد

مولانا جلال الدين الرومى.. صاحب الأنوار


من الأمور الجديرة بالتفكير أن كل إنسان هو سرٌ عميقٌ بالنسبة إلى سائر الناس، حتى إنك إذا نظرت إلى مدينة كبيرة من فوق جبل مرتفع، خطر لك أن كل بيت من بيوت هذه المدينة يُغلق بابه وهو ينطوى على سره الخاص، ثم إن كل إنسان يتحرك فى هذا البيت يحمل معه هو الآخر سره الخاص، بل إن هذا المتشرد الذى ينام فى العراء تحت جنح الظلام بلا بيت يُؤويه هو الآخر ينام على سره الخاص، فما هو السر الخاص الذى كان يحمله الصبى اليافع جلال الدين الرومى وهو يركب الراحلة خلف أبيه العجوز؟ أتراه كان ينظر إلى أبيه ويخشى عليه من وعثاء السفر، أم كان يحمل هم هذه الدنيا ومستقبل أيامه فيها؟ أم أنه كان يُمعن التفكير فى أسرار الوجود وتجليات الله فى الكون؟ ولعله كان يتفكر فى روعة الإشراق الروحانى الذى قرأ عنه فى كتابٍ لفريد العطار، ولكن ما كان يفكر فيه سيظل سرًا مستغلقًا علينا.
حط بهم المقام فى مدينة «كرامان» التى تقع وسط الأناضول، ولا أدرى لماذا كرامان؟ ألأنها كانت قريبة من المدينة التى كانت الأقدار تقودهم إليها؟ أم لأنها كانت قريبة من مدينة أنطاليا التى تطل على البحر المتوسط، وما أدراك ما سحر تلك المنطقة وجمالها؟ أم لأن الله كان قد قدّرَ أن يقع لهم فى تلك المدينة أمرٌ جلل؟ فلتعلم يا صديقى أنه ليس للأقدار طريقٌ واحد، فالذى يُقدّر الأقدار يرتب الأحداث، ويُفرّع لها الطرق، وكانت أول الأحداث هذا الاستقبال الرائع الذى استقبلتهم به المدينة، وتلك الوفادة الكريمة من حاكمها وعلمائها، وفى هذه المدينة سيعيش صاحبنا فترة من الزمن سيرتقى فيها علمه، وتتنوع فيها معارفه، فى هذه المدينة سيصبح شاعرًا وسيقول الأدباء فى مستقبل الأيام إن أثر جلال الرومى فى الإنسانية أعلى من أثر شكسبير، وفى هذه المدينة سيقع قضاء الله وستموت أم جلال الدين السيدة مؤمنة خاتون، وقد كان أثر موتها على قلب صاحبنا أشد ما يكون، هل كتب الله عليه أن يفارق من يحبهم، فإذا كان قد فارق أصحابه فى البلاد التى عاشوا فيها، فقد آن الأوان أن تفارقه أمه، وتحت ثرى تلك المدينة دُفنت مؤمنة خاتون، ومن بعد أقام أحد الملوك مسجدًا ضم ضريحها، وهو يُزار من أجل مولانا جلال الدين الرومى.
أظنكم ستشاركون صاحبنا أحزانه، وسترونه وهو يحمل نعش والدته مع الحاملين، ولكنكم سترون كتفه وهو ينوء بالحمل، فهو لا يحمل نعشًا ولكنه يحمل على كتفيه كل أحزانه، والحزن يحطم ظهور الرجال، ولكن ما حال الأب العجوز وقد تجاوز السبعين؟ فى هذه السن قد تجف المآقى فلا تجد دمعًا تضخه، ولكن الدموع ستنفجر من ينابيع القلوب، وبعد فترة ليست بالقصيرة فكّر مولانا جلال الدين أن يتزوج وكان قد وصل إلى التاسعة عشرة، وبالفعل خطب واحدة من بنات سادات القوم فى «كرامان» هى الفتاة «جوهر خاتون» ثم تزوجها، وانشغل الرومى بالدنيا قليلًا فزوجته أنجبت له الأبناء، ولكنه فى كل الأحوال كان قد أكبّ على الدراسة وتلقى المعارف الدينية، ووالده فى كل هذا هو شيخه ومعه أصحابه من العلماء الكبار.
ولكن هناك فى مدينة قونية، كان هناك ملك من ملوك سلاجقة الروم يُدعى السلطان كَيقُبَاد علاء الدين، وكان كيقباد هذا قد استقر فى حكم قونية قبل سنوات قليلة بعد موت أخيه الذى كان ينازعه فى الحكم، وكان كَيْقُبَاد أعدل الملوك وأحسنهم سيرة، وفى مناقبه تحدث المؤرخون وأخبرونا أنه كان يحب الفنون والآداب ويُجل العلماء ويحترمهم، وعندما عرف هذا السلطان أن فى مدينة «كرامان» القريبة منه رجلٌ عالم كان يُسمى فى بلدة «بلخ» سلطان العلماء آثر أن يصطفيه ويقدمه فى بلاده، فأرسل فى استدعائه ليكون فى «قونية» أكبر علمائها والمعلم الأكبر فى مدرستها، ولأننا الآن نرقب مسيرة «قدر الله» الذى حدث وعرفناه، فإننا سنعرف أن الأب العجوز شعر بارتياح لهذا العرض، وسنجد جلال الدين وقلبه ينشرح لهذا، فها هى مدينة من المدن الكبرى يختلف جوها عن جو «كرامان» القارى شديد البرودة فى الشتاء شديد القيظ فى الصيف تنتظرهم.
وكعادة الأب العجوز عندما يحل فى مكان يُحسن أصحاب المكان وفادته، فقد استقبله السلطان بنفسه، وخصص له مسكنًا لائقًا له ولابنه جلال الدين الرومى، وفى هذه المدينة اكتسب جلال الدين بين الناس لقب الرومى، وكان أسعد ما قابله فى تلك المدينة هو مقابلته للشيخ «برهان الدين محقق ترمذى» فقد كان هذا الشيخ تلميذًا للأب العجوز فى سابق الأيام عندما كانوا فى مدينة بلخ، وعندما كان القرار النهائى أن يستقر الأب العجوز وابنه جلال فى قونية أرسل الأب إلى تلميذه برهان الدين كى يلحق بهم فى قونية، من أجل أن يتعهد ولده جلالًا بالرعاية ويهتم بأمور تعليمه، وكان برهان الدين هذا هو يد العلم التى أقامت بنيان مولانا جلال الدين، فقد كان من الذين استقامت عقولهم على علوم الشريعة، وأُشربت قلوبهم من مناهل الحقيقة، وقد كان الشيخ برهان الدين شاعرًا رقيقًا يحب الشعر، ويحفظ عن ظهر قلب أشعار كبار العاشقين مثل الحلاج والعطار، وعندما اكتملت علوم الشريعة لمولانا جلال الدين قال له شيخه برهان الدين: «لقد بذلت يا بُنى جهودًا كبيرة فى تحصيل العلم، وصرت علمًا من الأعلام، ولكن يا بُنى يجب أن تعرف أن وراء تلك العلوم التى اكتسبتها، والمعارف التى عرفتها علمًا آخر، وما علوم الشريعة إلا قشرة له، فادخل إلى تلك العلوم بقلبك، وغُص فيها بروحك»، وسنعرف من مستقبل الأيام أن مولانا جلال الدين كان لسان حاله يقول لنفسه: «لقد كنت تبحث عن الله، فإذا أردت أن تراه فانزع عن قلبك الغشاوة، وحرر نفسك من القيود التى كبلتك، ولا تنشغل بالكوْن عن المُكَوِّن»، وسنعرف أن مولانا جلال الدين لم ينشغل أبدًا بالكون عن المكوِّن.
ولكن قلب مولانا جلال الدين كان يحدثه أنه سيلتقى بواحد من الناس سيغير مجرى حياته، وكأنه كان يراه فى أحلامه، ويسمع صوته وهو يأتى له من سراديب الزمن، ففى هذه الدنيا ناسٌ سبق لك أن قابلتهم فى ملكوت الله، فإذا رأيتهم فى الدنيا عرفتهم وتآلفت معهم، فالأرواح تتآلف لما كان من سابق صلتها، ونحن نعلم أن شمس التبريزى كان يجوب الدنيا ليرى صاحب الوجه المخفى، فهل اقترب اللقاء؟ لم تحن لحظة اللقاء بعد، فتجاريب الدهر لم تثقل مولانا حتى الآن، لذلك ستراه والحزن يضمخ قلبه عندما مات الأب العجوز بعد أن تجاوز الثمانين، ومن بعده إذا به يفقد زوجته وحبيبة قلبه «جوهر خاتون» وهى فى رَيعان الشباب، وسبحان الله، يموت له الأب العجوز الذى يئس من الدنيا، وتموت الزوجة الشابة التى كانت ترجو من الدنيا ما ترجوه، وكلنا إلى هذا الطريق سائرون، وكلنا سائرون إلى الله، وسنعرف فى الحلقة القادمة أن موعد اللقاء مع شمس التبريزى قد اقترب وعندها ستتغير الدنيا.