رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حافة الهاوية ٢


بصرف النظر عما ستؤول إليه الأوضاع المتوترة فى منطقة الخليج العربى: حرب كارثية جديدة، لا يعلم مداها، أو نتائجها إلّا الله، أم عملية «تسكين» مُتَدَرِّج تحفظ ماء وجوه «ترامب» وإدارته، فإن الخاسر الأساسى من هذه اللعبة الشيطانية، هم العرب وقضاياهم القومية، إن كان قد بقى من هذه القضايا شىء.
فى ظنى أن المنطقة العربية ككل ستخسر خسارة مؤكدة، وهى لم تمر فى مسيرتها التاريخية بمثل ما تمر به الآن من تفكك واهتراء. وستُزيد الأحداث الجارية من ضعفها وتفكك بنيتها، ومن تضارب المصالح، بل تناقضها، بين مكوناتها وعناصر وحدتها.
أما أبرز الخاسرين فى هذه التراجيديا التى تجرى وقائعها أمام ناظرينا هو تلك الأطراف التى لم تتأخر عن ابتلاع الطُعم الأمريكى المُسمّى: «الخطر الشيعى»، ودق طبول الحرب للتصدى لهذا الخطر المزعوم، متجاهلة مغزى القصة الشهيرة المعروفة: «أُكلت يوم أُكل الثور الأسود».
فسواء انفجرت الحرب، أم انقشع الخطر ولو إلى حين، فالثابت أن هذه الأطراف ستخسر الكثير من ركائز استقرارها، وعناصر ازدهار أوضاعها، وسيقوم «الحامى» الأمريكى، كما عودنا «ترامب»، باستحلاب ثروات هذه الأطراف، وباعتصار خيراتها، لقاء الحِفاظ على أمنها من تهديدات «الخطر المزعوم».
وهناك ثمن آخر لا يقل فى خطورته وتأثيراته السلبية، وهو الانقسام، بل الشرخ، الذى يتسع ويتعمق يومًا بعد يوم، ناشرًا روح الكراهية والريبة والعداء داخل مُكونات البيئة العربية، بين «السُنّة» و«الشيعة»، أبناء الدم الواحد، والدين الواحد، والذى أصبح يطال الجميع، ويُمزِّق لُحمة ليس وحسب الدولة الواحدة وإنما الأسرة الواحدة أيضًا.
أمّا الخاسر الآخر فى هذه الملهاة المأساوية فهو الشعب الفلسطينى الذى يتعرض، بعد فرض مشروع «ترامب» المُسمّى «صفقة القرن»، إلى حرب غير مسبوقة، تُستخدم فيها كل الأسلحة: القتل والعدوان والترويع والتجويع والحصار الاقتصادى، لكى يتخلى، ونهائيًا، عن مطالبه التاريخية المشروعة، بحقوقه التى نهبتها الصهيونية، وبعودته إلى أرضه المستباحة، واسترداد وطنه السليب. والأخطر فى هذا السياق هو انفضاض أغلبية الدول العربية عما كان يُنظر إليه باعتباره «القضية المركزية» للعرب: «قضية فلسطين»، سواء بالانشغال فى أشكال الاحتراب الداخلى، ومواجهة المؤامرات الخارجية: كسوريا، واليمن، وليبيا، وغيرها، أو بالهرولة إلى التطبيع «المجانى» مع «إسرائيل»، على نحو ما نراه فى الفترة الأخيرة، من دول عربية عديدة.
أما آية هذا التحول، وقمة المأساة، فهو ما نراه من انتقال خطير للكثير من الأطراف العربية، من موقف استمر أكثر من مائة عام، كان فيه «الخطر الصهيونى الاستعمارى» هو الخطر الرئيس، الذى اجتمعت عليه رؤية وإرادة غالبية العرب، إلى التحالف «المُعلن أو الخفى» مع ما كان يُطلق عليه «عدو الأمة»، «الصهيونى الاستعمارى»، فى مواجهة جزء من المُكَوِّن التاريخى للعرب المسلمين «الشيعة»، وللمنطقة الجغرافية المُسمّاه بـ«الشرق الأوسط»: «إيران» الشيعية.
وقد أعلن «بنيامين نتنياهو» أن العرب «لم يعودوا يعتبرون إسرائيل عدوًا لهم، فقد توحَّدوا معها فى مواجهة عدو واحد: هو إيران»!، والآن يتخذ الأمر شكلًا مؤسسيًا، فى صورة حلف جديد هو «الناتو العربى»، أو «حلف الشرق الأوسط الاستراتيجى- ميسا»، الذى يجمع أعداء الأمس فى مواجهة العدو الشيعى المُستَجد.
لـ«إيران» مطامح، بل و«مطامع» فى المنطقة العربية، ولكن وضع التناقض «التكتيكى» معها، الذى يُمكن حله بآليات عديدة، ليس من بينها الحرب التى لن تُبقى ولن تذر، فى محل التناقض «الاستراتيجى»، الذى لا يُحل إلا بالحرب والدماء، خدمةً لمصالح أمريكا وإسرائيل- يعكس اختلاطًا فى الرؤية، سيندم الجميع بسببه، حين لا تعود هناك فائدة من البكاء على اللبن المسكوب.