رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الأرض بتتكلم عبرى


كان يوم الإثنين الماضى، «٢٥ مارس ٢٠١٩»، يومًا جديدًا من أيام «نكبات العرب» لن ينساه التاريخ، وسيظل فى الحافظة السوداء للذاكرة العربية، مثله مثل يوم «وعد بلفور»، ويوم احتلال العراق، ويوم الاعتراف الأمريكى بالقدس العربية المحتلة عاصمة لدولة الاغتصاب.. وغيرها من الأيام السود التى امتلأت بها ذاكرة العرب، منذ ضعفت شوكتهم، وانفرطت وحدتهم، وتفككت لُحمتهم، وأصبحوا مطمعًا لكل باغٍ وطامح.
فى مساء ذلك اليوم، وقّعَ الرئيس الأمريكى فى البيت الأبيض، وبحضور «بنيامين نتنياهو» رئيس الوزراء الإسرائيلى، وثيقة الاعتراف بسيادة دولة الاحتلال الصهيونى على مرتفعات الجولان المحتلة، الأرض السورية العربية التى بسطت إسرائيل سطوتها عليها بالغصب، عقب هزيمة ١٩٦٧، والتى مضى على احتلالها ٥٢ عامًا كاملةً لم تكف فيها يومًا عن إعلان ارتباطها التاريخى بالأرض السورية الأم، رافضةً كل الضغوط للانضمام إلى الدولة الصهيونية الغاصبة، غير أن الفرصة قد واتت الرغبة الصهيونية الجامحة لوضع اليد عليها غصبًا، والتهامها ازدراءً، كما حدث لمُجمل أراضى فلسطين، ومزارع شبعا اللبنانية، وشبه جزيرة سيناء قبل أن تحررها الدماء المصرية الطاهرة.
والحق أن الوضع العربى مواتٍ لتنفيذ خطط كل مُتَلَمِّظ، فدول العرب مُزقًا وأشياعًا، تشغلهم نوازعهم الصغيرة، ويخدعهم نظرهم القاصر عن حقيقة الوحش المتربص، وهم قد ابتلعوا الطُعم برغبتهم البائسة، حين أُقنعوا بأن عدوهم هو من أهل شيعتهم، ومن بين إخوتهم فى عقيدتهم وأرضهم، وابتكروا خِصمًا جديدًا، «الخصم الشيعى»، ليداروا به أطماع عدوهم التاريخى والآنى، «الأمريكى الإسرائيلى»، الذى افترس إخوتهم فى فلسطين، والتهم لحمهم الشهىّ، ويسن الأسنان لاستكمال العبث بهم وبباقى أرضهم، متجاهلين عن عمدٍ وتواطؤ، ما حلَّ بالعراق، وما صُنع باليمن، وما يدور فى ليبيا، ومتغافلين عن حماقةٍ، أطماع أمريكا وإسرائيل فى نفط العرب، وثرواتهم ومغانمهم، ومتناسين عن غباءٍ الحكمة المعروفة: «أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض».
داست أمريكا وبلطجيها «ترامب» على القانون الدولى بالحذاء، وضربت بالشرعية الدولية عرض الحائط، وتجاهلت عن عمدٍ كل ما أرسته البشرية، على مدى القرون والأحقاب من قواعد وأسس للنظام العالمى، وأكدت مُجددًا، أنها وربيبتها إسرائيل هما عدوا العرب التاريخيان، يضاف إليهما كل غافلٍ ومتواطئ، يرى الحق فيدير ظهره، ويقبل بالباطل وينصاع له.
وإذا كان ترامب قد أهدى ما لا يملكه لمن لا يستحق، تحت زعم مواجهة الخطر الشيعى الإيرانى، وخطر حزب الله، فلا يجب أن ينسى مريدوه العرب ما قاله، ونصّه: «دول منطقة الشرق الأوسط لم تكن لتبقى أسبوعًا لولا الحماية الأمريكية، ودفعنا ٧ تريليونات دولار خلال ٨١ عامًا فى الشرق الأوسط ولم نحصل على شىء، وعلى الدول الغنية فى المنطقة أن تدفع ثمن حمايتها!»، «الأهرام ٢٨ أبريل ٢٠١٨»، فهو عازمٌ على أن يجردها من كل شىء، ويتركها فى الربع الخالى خالية الوفاض.
والآن: ماذا نحن فاعلون؟، وهل من الحكمة أن نرضخ للعدوان حتى لو صحونا على صوت المُغنّى يصدح: «الأرض بتتكلم عبرى: الأرض.. الأرض».
أظن أن ممالأة الشر، والاتكاء على أننا ضعفاء ومنقسمون كمبررٍ للهرب من تحمّل المسئولية لن يُنجى أيًا منا من الخطر المحدق، وعلينا جميعًا، دولًا وشعوبًا، أن نقاوم بكل السُبل، وأن نعلن بكل عزمٍ ووضوح: «لا لغطرسة القوة، وللافتئات على الحقوق، وللابتزاز والبلطجة، أيًا كان مصدرها».
ومخطئٌ إلى حد الخطيئة، مَن يظن أن القبول بقانون الغاب، والرضا بشروط القوى، والخضوع لإرادة «فتوة الحارة» سيكفل له النجاة، ويضمن له البقاء، وقديمًا قال الشاعر: «والشر إن تلقه باللين ضقت به.. ذرعًا، وإن تلقه بالشر ينحسمُ».