"أبو الخير نجيب".. صحفي الملكية والجمهورية الذي نال عفو السادات
"أبو الخير نجيب" اسم يبدو مجهولا لأغلبية من أبناء مهنته، إلا أنه استطاع أن يسجل اسمه فى سجلات صاحبة الجلالة، بوصفه نموذجا لأبناء مهنة "البحث عن المتاعب"، بعد أن أبى بيع ضميره، رافضا الخضوع أمام ذهب المعز أو الركوع لسيفه.
بدأت علاقة "أبو الخير نجيب" بالصحافة خلال الحقبة الملكية، التى تفاعل مع أحداثها بالعديد من مقالاته النارية، موجها سهام نقده للجميع بما فيهم الملك نفسه.
ففي عام 1948، عندما أعلن ملك رومانيا تنازله عن العرش، وهو الخبر الذى لم يهتم به الكثير من المصريين، إلا أن الأمر كان مغايرا فى رأى "أبو الخير نجيب"، الذى كتب مقالا فى جريدة "النداء"، تحت عنوان "التيجان الهاوية"، معتبرا قصة ملك رومانيا أبرز نهاية لملك مغامر لا يعرف حدودا لنفسه، ويقحم نفسه فيما ليس من اختصاصه، وهو ما يجعله يهوي دون المسئولية، حاملا العديد من الاسقاطات والايحاءات التى تنال من شخص الملك فاروق.
ساعات قليلة مرت على صدور صحيفة «النداء» أحد الصحف الناطقة بلسان حزب الوفد حينذاك، قبل أن يحاصر الحرس الملكى المطبعة ويجمع الأعداد منها ومن الأسواق، واستكملت إجراءاتها بالقبض على الكاتب، وإحالته إلى "نيابة الصحافة" التى لم تجد فيما كتب مشينة شر يعاقب عليه، فقررت إخلاء سبيله.
لم يشفى قرار النيابة غليل الملك وحاشيته، فتصدى كريم ثابت مستشار الملك للمسألة، الذى وجه إبراهيم عبد الهادي باشا رئيس الديوان الملكي، ورئيس الوزراء فيما بضرورة معاقبة "نجيب" وكل من اشترك في نشر مقاله، لتعود الأزمة لأوجهها، وتم سجن "أبو الخير" وإحالته للمحاكمة، التى شهدت جلساتها إصرار غريب على إدانته، بصورة كفيلة بنسف شرعية نظام بأكمله، مما استدعي تدخل وزير العدل آنذاك، وتبعه رئيس الوزراء النقراشي باشا، الذي رهن استقالة الحكومة بإطلاق سراح "نجيب"، ليتم الإفراج عنه بعد خاطبه النائب العام قائلا: «قررنا الإفراج عنك، لكن عدني ألا تعود لمثلها مرة أخري»، فأجاب طلبه بقوله: "إنني لا أقبل المساوامة على حريتي"، فاستكمل إجراءات الخروج ولم يُعقب.
واقعة أخرى كان بطلها "أبو الخير نجيب"، يروى تفاصيلها الكاتب الصحفي محمد توفيق، في افتتاحية كتابه "حب وحرب وحبر"، الذي يؤرخ لصراع الصحافة والسلطة في النصف الأول من القرن العشرين، فيقول: "حدث في إحدى المرات أن ذهب صحفي لمكتب رئيس الوزراء إسماعيل صدقي باشا، لإجراء حديث صحفي تم الترتيب له مسبقا، وظل الصحفي منتظرًا، والثواني تمر تتبعها الدقائق ومن بعدها الساعات، دون أن يقابل رئيس الوزراء، فذهب غاضبا إلي رئيس تحرير جريدة «الأهرام» أنطوان الجميل، وقص عليه ما حدث، والذي اتخذ قراره بمنع ذكر اسم رئيس الوزراء على صفحات الجريدة، ليجد صدقي باشا نفسه فى موقف صعب، لتنتهى الأزمة بتقديمه اعتذارا شخصيا لـ"نجيب".
مع قيام ثورة يوليو عام 1952، ما حملته رياحها من تغييرات فى بنية المجتمع ونظامه السياسى، فتبدلت المواقف واقترب الكثير من المعارضين من كرسى الحاكم الجديد، لكن بقى "أبو الخير نجيب" فى مكانه، بعد أن وجد نفسه ثائرا على مجلس قيادة الثورة، انتصارا للرئيس الراحل محمد نجيب، وكتب العديد من المقالات التى عبر فيها عن موقفه بوضوح، ليجد نفسه مطلوبا للمحاكمة من جديد، لكن بتهم مختلفة؛ حيث وجهت له المحكمة تهم التواصل مع جهات أجنبية، والمشاركة في تقليب فئات المجتمع على الثورة.
وفي جلسة النطق بالحكم، حسبما يروى محمد توفيق، صعد الحراس بـ"نجيب" إلي الدور الثاني من مبني مجلس قيادة الثورة، الذي شهدت المحاكمة؛ حيث كان في انتظاره الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، الذى سأله عن سر موقفه المضاد من الثورة، مقدما له عرض باسناد إدارة دار صحفية كبرى إليه، لكنه أدار ظهره للعرض قائلًا: "تعودت أن أكتب للشعب.. ولن أكتب لغيره".
وبعد دقائق، نزل "أبو الخير" لساحة المحكمة، التى قضت بإعدامه قبل أن يخفف الحكم لاحقا إلي الأشغال الشاقة المؤبدة، قضي منها 19 عاما؛ قبل أن يقرر الرئيس الراحل محمد أنور السادات الإفراج عنه، مع توليه سدة الحكم.