رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حكايات مصرية.. جنازة بطل في مسجد رابعة


مفارقة مهمة يشهد عليها مسجد رابعة العدوية الذى اشتهر بجرائم الاخوان وشهد مذابح لن ينساها التاريخ لهم وانتهت بحرق المسجد يوم فض اعتصام الاخوان في الميدان واحتلال المسجد لأكثر من شهرين.
مسجد رابعة، كان شاهدا أيضا على جنازة بطل من طراز فريد قلما أن يجود الزمان بمثله، وهو البطل محمود نور الدين، قائد ومؤسس تنظيم ثورة بمعاونة صديقه البطل خالد جمال عبدالناصر
قد لا تعرف الأجيال الجديدة تاريخ تنظيم ثورة مصر أو لا تعرف اسم البطل محمود نور، لذلك جاءتنى فكرة هذا المقال للتذكرة التى تنفع المؤمنين، فالبطل نور الدين هو ضابط مخابرات مصرى بارع في مهامه أثناء حرب 73 حتى نال نوط الشجاعة وقدم استقالته بعد زيارة السادات للقدس عام 1977 واستكمل مسيرته في العمل الدبلوماسي ثم استقال وتفرغ للتجارة التى كون من خلالها ثروة طائلة ساعدته فى تمويل وإصدار جريدة من لندن كانت مهمتها الدفاع عن الثوابت العربية ومقاومة التطبيع مع العدو الاسرائيلى ورأس تحريرها لفترة الاستاذ محمود السعدنى.

وعاد نور الدين إلى مصر في اوائل الثمانينيات ليفاجئ بأن ضباط المخابرات الاسرائيلية الذين كان يعمل ضدهم في لندن أثناء عمله في المخابرات هم أعضاء السفارة الصهيونية في مصر، وهالة منظر رفرفة العلم الإسرائيلى على ضفة النيل الغربية، فقرر يقاوم وجود الجواسيس الصهاينة فى مصر بالاستعانة بمن كان يعرفهم ويثق بهم، فشكل التنظيم وضم إليه 19 عضوا هم من جاءت أسمائهم في القضية بعد الكشف عن التنظيم، ومن بينهم اسمين من أسرة الزعيم الراحل جمال عبدالناصر هم الدكتور مهندس خالد جمال عبدالناصر وحمل لقب المتهم الثانى في التنظيم وجمال شوقي عبدالناصر ابن شقيق الزعيم، إلى جانب ابن حسين الشافعى نائب رئيس الجمهورية الأسبق، وعضو مجلس قيادة ثورة يوليو، الذى قال مقولته الشهير بعد القبض على ابنه "شرف لا ندعيه وتهمة لا ننكرها".

استمر تنظيم ثورة مصر يمارس نشاطه فى تتبع تحركات الاسرائيليين في القاهرة من يونيو 1984 وحتى مايو 1987 وهو تاريخ آخر عملية قام بها ضد مسؤول أمن السفارة الأمريكية، وجاء قرار الهجوم على أحد أعضاء السفارة الأمريكية ردا على قرصنة الطيران الحربي الأمريكى على إحدى الطائرات المصرية، وهو ما جعل التنظيم هدفا لثلاثة أجهزة مخابرات تبحث عنه بهستيرية في محاولة للكشف عنه الذى شبهته صحف الثمانينيات بأن اعضائه أشباح لا يعرفهم أحد،وقالت عنهم صحيفة صوت العرب أنهم ملائكة تظهر وتختفي لتحارب الصهاينة وهكذا لم يكشف سر هذا التنظيم المحكم إلا الخيانة التى جاءت من داخله.

ورغم تطوع العشرات من المحامين للدفاع عن التنظيم إلا أن نور الدين اختار الدكتور عصمت سيف الدولة ليترافع عنه، والذى استطاع ان يحول محاكمة تنظيم ثورة مصر الى محاكمة للصهاينة والأمريكان حتى أن الدكتور عصمت الحق بمذكرة دفاعه وثيقة الصهيونية لتفتيت الأمة العربية التى صدرت فى الثمانينات عن المنظمة الصهيونية ليثبت أن ما فعله بطلنا وزملاؤه لم يكن يوما جرما، بل عمل وطنى نبيل يستحق كل إجلال وتقدير، وهو ما كان من معظم الحركات السياسية المصرية إلا التنظيمات الإسلامية التى لم تصب رصاصاتها إلا المصريين وحتى الأجانب الذين استهدفهم هذا التيار لضرب السياحة لم يصب ولو بالصدفة سائح إسرئيلي أو أمريكى واحد.

وأسفرت عمليات تنظيم ثورة مصر عن اغتيال دبلوماسي إسرائيلي في المعادي في 4 يونيو 1984 وقتل دبلوماسي إسرائيلي في 20 أغسطس 1985 والهجوم ضد السرادق الإسرائيلي في معرض القاهرة التجاري عام 1986. وإغتيال الملحق الثقافي الإسرائيلي وجرح إثنان من رفقاء وزير السياحة الإسرائيلي الذي كان يزور السرادق. واخيرا محاولة إغتيال دبلوماسي أمريكي في 26 مايو 1987. ليحكم على اعضاءه بالمؤبد بين 10 و25 عاما التى كانت من نصيب محمود نور الدين وبراءة الدكتور خالد عبد الناصر واسامة خليل الذى جمعتنا به صداقة كبيرة بعد خروجه لنكتشف ان احد اعضاء التنظيم ما هو إلا فنان رقيق المشاعر هادىء الطباع.

وشهدت السنوات الاخيرة من حياة نور الدين تراجعا ملحوظا في صحته وبدأ في بيع بعض ممتلكاته ذلك لانه يقوم بالإنفاق ببذخ من داخل محبسه على العديد من الأسر، فضلا عن تكفله بتكاليف الطعام والشراب لرفاقائه بالسجن حتى الجنائيين منهم اللذين تقربوا منه واحبوه بدرجة كبيرة

والغريب أنه ورغم محبسه كان هو من يبادر بمجاملتنا فكانت هداياه تصلنا مع كل مناسبة من أعمال الخشب الاركت الذى أتقنه وكان يصنعه بيده فى محبسه خاصة ذلك المجسم للقدس الشريف وميداليات تذكارية تحمل اسمه وكروت معايدات كانت تصلنا منه عن طريق محاميه الاستاذ خالد طلعت، وقبل رحيل البطل جاءت الاستغاثات من محاميه والمقربين منه بتعرض حياته للخطر بسبب أمراض الفشل الكلوى والحمى التى هاجمته ويبدو ان القرار يومها كان التخلص منه وقتله سلبيا بمنع الأدوية عنه، وبالفعل فاضت روحه في يوم 16 سبتمبر عام 1998

جماهير غفيرة لا نعرف من أين أتت في مقدمتها صحفيو الأسبوع لتشيع البطل بالشكل اللائق فكتبنا يفط ولافتات تحمل اسمه في وداع البطل محمود نور الدين وتجمع عدد كبير من محبيه واصدقائه القدامى في مسجد رابعة العدوية ووقفنا أمام مسجد رابعة نهتف للشهيد ونرفع اليفط السوداء التى كتبت في وداعه وتجمع العديد من المواطنين يتساءلون عن هوية الشهيد، فنقول لهم انه أحد أبطال المخابرات المصرية فتجمع عدد كبير منهم، وأمتلئ المسجد عن آخره وحملنا الجثمان داخل المسجد وطوفنا به وكأننا نطوف به حول الكعبة المشرفة ثم توجه الجثمان إلى مقابر الأسرة التى تقع أمام مشرحة زينهم.

ووفق ما نتذكر للأمانة والتاريخ، كان أخر من ودع البطل وهو ملفوف بعلم مصر هو الاستاذ مصطفى بكرى رئيس تحرير الاسبوع، وكاتب هذه السطور، وأن أخر من ودعه في قبره ولقنه الشهادة هو المحامى المحترم محمود قنديل، وتنتهى مراسم التشيع ولكن لم تنته حكايات البطل، ولن تتوقف بطولات المصريين.