رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«تسونامى» التطبيع




ضربت موجة عاتية من أمواج «التطبيع» بين العرب وإسرائيل، المنطقة العربية. موجة تشبه فى عدوانيتها وبطشها موجات «التسونامى» العاصفة الشهيرة، التى تهبُّ حاملةً معها الدمار والخراب، فتروح تعيثُ فسادًا فى كل الأرجاء، تُغرق المدرسة والمسكن. وتُحطّم المصنع والمعمل، وتُدمِّرُ الحرث والنسل، وتجتاح الأخضر واليابس، ولا تترك وراءها إلا خرابًا عميمًا.
الحقيقة أن ما حدث هذا الأسبوع، لم يكن يحمل أدنى مفاجأة لمن كان يتابع تطور العلاقات بين الدولة الصهيونية والعديد من الدول العربية، وبالذات الدول الخليجية، فقد كانت هناك مؤشرات سابقة، ومقدمات عديدة، ولم تتوقف التحركات، هنا وهناك، ولا انقطعت الزيارات غير المعلنة، وبعضها- كجس للنبض- تم الإعلان عنه، حتى تمهّدت الأرضيّة، يومًا بعد يوم، لإزاحة الستار عن المشهد البائس: حين تُشرع الأبواب تباعًا، للسيد الصهيونى المنتشى، وهو يسير بخُيلاء الفاتحين ونشوة المنتصرين، على البساط الأحمر، فيلقى الترحاب الفائق هنا وهناك، مزهوًا زهو الفائزين المُمَجّدين.
والذى تابع «البوصلة» العربية طوال المرحلة الماضية، كان حتمًا، سيُلاحظ بوضوح، أن اتجاهات مؤشراتها المُعلنة، «لأن المؤشرات المحجوبة كان لها شأن آخر»، قد تغيّرت تغيُّرًا واضحًا، وأصبحت تُشير إلى عدو جديد، غير العدو التاريخى، الذى عرفناه، منذ الاغتصاب المُعلن لفلسطين، فى منتصف القرن الماضى، وحتى عقود قليلة مضت. فلم يعد للإسرائيلى المحتل، مغتصب فلسطين، وضعيته الماضية، ولا عادت للقضية، القضية المركزية فلسطين، ذاتها، موقعها السابق، وإنما أصبح العدو الجديد: المُخترع، أو المُصطنع، أو على الأقل المُبالغ فى حدود ما يمثله من تهديد، وما يُشكّله من خطر، هو العدو الإيرانى الأشر، ولم يعد «الخطر الصهيونى» هو التحدى، وإنما أصبح الخطر الرئيسى هو «الخطر الشيعى»، وأصبحت الحرب الطائفية فى داخل الدول العربية، بديلًا عن مواجهة «التحدى الصهيونى»، الواقع بالفعل فى قلب المنطقة، مُدججًا بأعتى الأسلحة حتى النووية، والذى أعلن على رءوس الأشهاد عنصريته، وألقى قُفّاز التحدى فى وجوه الجميع. والمدهش أن هذا التحول البائس كان مجانيًا، دون أى أدنى مُقابل، بل بثمن عربى باهظ، ومأساوى. بل إنهم تخلوا حتى عن «مبادرة السلام»، التى أطلقها ملك السعودية «عبدالله»، عام ٢٠٠٢، للاعتراف بإسرائيل مقابل دولة فلسطينية معترف بها دوليًا على حدود ١٩٦٧، وعودة اللاجئين، والانسحاب من هضبة الجولان، واختاروا أسوأ الظروف، وأبأس الأوضاع، «ووضع السعودية الحرج، بعد مقتل خاشقجى أبرز مثال على ذلك»، لمد يد السلام، «وأى سلام هذا؟» إلى إسرائيل، التى لم تقدم ولو دليلًا واحدًا على أنها تعرف قيمة السلام، أو راغبة فيه!. منذ فترة ليست بالبعيدة، أعلن بنيامين نتنياهو، حينما سُئل عما وُصف بـ«الحلف السُنّى - الصهيونى - الأمريكى»، أو «الناتو» العربى، أو ما سُمّى، فى آخر طبعة «حلف الشرق الأوسط»، واختصارًا «ميسا»، والذى أعلن عن إنشائه «مايك بومبيو»، وزير الخارجية الأمريكى، وسيضم دول الخليج ومصر والأردن، أجاب «نتنياهو»: «الحلف قائم بالفعل، فلم تعد الدول العربية تعتبر إسرائيل عدوًا، العدو فى مكان آخر»!، كان يُشير بالطبع إلى العدو المُختَرع: إيران!. وقد بلغت المأساة حدود المهزلة، حينما رأينا على وسائل الميديا أشخاصًا، يلبسون «العِقَال»، ويحملون جنسية هذه الدولة العربية أو تلك، يهرفون بأنه لم يوجد ولا يوجد شىء اسمه دولة فلسطين، حتى من قبل عام ١٩٤٨، والموجود فقط هو دولة إسرائيل المستقلة ذات السيادة!. معروف بالطبع تلك المقولة الخالدة: «إن من لا يعى دروس التاريخ، سيُحكم عليه أن يتجرع مرارتها مرةً أخرى»!.. ويا لها من مرارة، أمرّ من العلقم.