رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سطوة الإعلان فى خطيئة المونديال


بسبب تعثر الآخرين، وبعد قرار «فيفا»، الذى أعطى لإفريقيا مساحة عددية أكبر للمشاركة فى بطولة كأس العالم، وصلناـ أيضًاـ بشق الأنفس وبالمراهنة حتى اللحظة الأخيرة على إخفاق المنافسين، لذلك التقييم الموضوعى لأداء الفريق المصرى فى التصفيات المؤهلة، يجعل حصاده غير جدير بالإشادة على الإطلاق.
لكن فرحة الوصول بعد غياب ٢٨ عامًا كانت كفيلة بالتغطية على أوجه القصور، الذى بدا جليًا أمام معظم المتخصصين ـ على الأقل ـ من الناحية الفنية، لتبدأ اعتبارًا من هذا المرور الصاخب على تلك المرحلة، سلسلة متوالية من الإخفاقات وسوء التقدير وعشوائية القرارات، كانت كفيلة بالوصول إلى النتيجة التى فجرت بركان الغضب المشروع لدى جموع المصريين، بدلًا من إخضاع مرحلة التصفيات إلى الفحص الفنى الشامل، تستتبعه إعادة النظر فى اختيارات اللاعبين وأدوارهم المطلوبة، على اعتبار أن أفضل وأجدر العناصر سيكونون محل اهتمام الجهاز الفنى، ومن ورائه اللجنة الفنية باتحاد الكرة.
تحول المشهد ١٨٠ درجة لينحرف بصورة هائلة عن مساره المنطقى، وتستبدل به حالة أخرى تمامًا، إذ بدا أمام الكثيرين أن هناك «غنيمة» ثمينة عنوانها «منتخب كروى»، فضلًا عن أنه يضم بين صفوفه أشهر لاعب كرة عالمى فى طريقه لحصد مجموعة من الجوائز العالمية، وهذا يضمن أكبر مساحة «استثمار إعلانى» يمكن تحقيقه من خلف هذا المكون الشهير جماهيريًا «كرة القدم»، والمثير بزخم الحدث «كأس العالم»، وهناك نجم شباك يضمن وحده حصيلة عربية ودولية «محمد صلاح».
هكذا بدأ المشهد، وهكذا سار حتى محطة النهاية، وما بينهما تفاصيل ضربت طموح الإنجاز الرياضى فى الصميم، ودمرت كليًا أى إمكانية لخطط إعداد جادة تضع اللاعبين وجهازهم فى «فورمة» الحدث الكبير، حيث غاب منذ اللحظة الأولى الحديث عن تطوير اختيار اللاعبين، فى الوقت الذى طغت فيه سريعًا أخبار الشركات الراعية، وهذه الأخيرة تعاملت مع الأمر برمته باعتبارها أمام «منتج» تستهدف منه تحقيق أكبر قدر من الربح المادى، والرواج الذى هو الحاكم لآليات عملها والسوق التى لا ترى غيرها، لينفتح تلقائيًا إسهال الجرى وراء اللاعبين، كى يكونوا «موديلات» فى إعلانات الصف الأول للشركات الكبرى، وهذه سوق هائلة وتقديراتها «المليونية» بالعشرات والمئات، تُسيل لعاب كل من ينفتح أمامه مثل هذا المجال، ويصير السباق فيه بطعم تكسير العظام بين متنافسيه، ولنا أن نتخيل أن بعض هؤلاء المتنافسين هم من سيضمهم فريق واحد، بعد أسابيع من هذا المعترك الذى انفتح على مصراعيه!.

المفارقة «الدالة» التى قد تثير بعضًا من السخرية وكثيرًا من الدهشة، أن المدير الفنى «هيكتور كوبر» هو أول من ضرب على هذا الدف، بإعلان قديم نسبيًا صوّر فيه استمتاعه بالتهام «الفتة» المصرية، قبل أن ينقلوه محمولًا إلى غرفة الإنعاش لإنقاذ حياته.
والأخرى أن أول معركة «تكسير عظام» إعلانى، كان بطلها «هانى أبوريدة» رئيس اتحاد الكرة، فى واقعة الخلاف على صورة «محمد صلاح» المرسومة على طائرة المنتخب، والتى استدعت صدور بيانات وأخرى مضادة من شركات الرعاية المتنافسة، واستتبعها تدخل رفيع المستوى لفض هذا الخلاف، خاصة أنه كان يجرى وسط «فترة الإعداد»، تلك الشهيدة التى لم يكن أحد يعيرها التفاتًا، فمنذ هذا التوقيت واللاعبون وأعضاء الاتحاد الآخرون، بعد علمهم بما يقوم به رئيس الاتحاد شخصيًا، صارت الدفوف تقرع فى الجبلاية ولدى الجميع على نغمة واحدة، أنه لا صوت يعلو فوق صوت العقود والسمسرة واستجلاب المحاسيب كى يغترفوا من تلك «الفتة»، التى ظلمت وهى ترى الأيدى تنهشها نهشًا.

انتظرت الجماهير المصرية والعربية والكثير من الاهتمام الدولى، أن ترى فريقًا مصريًا يعود بعد غياب طويل، كى يلفت إليه الانتباه بأداء رياضى فنى معقول ـ على أقل تقدير ـ وهناك من ذهب إلى ترشيحه نظريًا لصناعة المفاجآت بالنظر إلى وجود «صلاح» بين صفوفه، لكن الجميع وجد أمامه فريقًا مهزومًا قبل أن يلعب، ومشتت الذهن قبل أن يواجه خصومًا أكثر جدية واستبسالًا لتحقيق الانتصار، فلم تكن الكواليس المزرية المتخمة بالفساد قد انكشفت بعد، أو بمعنى أدق لم يضع أكثر المتشائمين فى مخيلته، أن يكون الهزل والعشوائية وعدم تحمل مسئولية الحدث، بهذا القدر الذى بدا فيه الفريق المصرى فى مبارياته «متفردًا»، وهنا نقصد بين الفرق التى تلقت الهزائم وخرجت مثلنا من الدور الأول، فحتى وقت الحفاظ على ما يمكن أن يعد ماء للوجه، كان فيه منتخبنا بإدارته ومديره الفنى ولاعبيه، عازفا عن هذا الماء، فقد ضربتهم الفرقة والنزاعات المكتومة، حتى صارت الجملة الأشهر التى ترددت بينهم ونقلتها الكثير من وسائل الإعلام، أنه «فى حال عدم الاستجابة للمطالب سيتم الإفصاح عما جرى ويجرى بمعسكر الفريق»!.

هذه الجملة الأخيرة، أول ما سمعها الجمهور المصرى، كانت فيما يخص عضو اتحاد الكرة مجدى عبدالغنى فى واقعة سبقت السفر بساعات، وصدر من رئيس الاتحاد قرار بشأنها، لكن الآية انقلبت على الفور بمجرد إطلاق تلك الجملة، مجدى عبدالغنى عضو الاتحاد، حصد ما يكفيه من كراهية الرأى العام له بعد العديد من المواقف والمشاهد، لكن الأفدح كان اشتراكه فى «استنزاف» الحدث من خلال مشاركته بأحد برامج «المقالب» الرمضانية، وهى أخرى مفارقة مزرية كونها كانت تجرى أيضًا فى «فترة الإعداد»، فلم يكن هناك أكبر من هذا «المقلب» الذى شربناه جميعًا، عندما ظننا أن ملوك وخبراء العقود الإعلانية والإعلامية، قادرون على قيادة «فريق رياضى» فى كأس العالم.

تبقى خطيئة كبرى وأخيرة، صنعها المعلنون بخبث شديد وابتلع طعمها الجمهور المتحمس، فرددها وكتبها وراءهم وهى (شجع مصر)، هى مهارة الحرفة الإعلانية التى يمكنها أن تحذف كلمة واحدة، كى تقلب وتنحرف بالمعنى تمامًا، فالفارق بين (شجع منتخب مصر) و(شجع مصر)، كبير وهائل.