رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الدرويشة والمريد «5-5»


ابتسمت الشابة للسيدة، ومدت لها يدها.
- يمكنك الآن أن تخرجى وتتجولى بحرية فى المكان كما تريدين.
- لقد اقترب الغروب.. أين سأنام؟
- فى أى مكان، بمجرد أن تشعرى بالرغبة فى النوم أو الراحة ستجدين نفسك فى غرفة نومك.
بالفعل نظرت السيدة حولها، اختفت كل الأجهزة الطبية، ورأت نفسها فى غرفة صغيرة مبنية بالطوب اللبن، أرضيتها مفروشة بالحصير وفى ركن منها مصطبة، عليها كليم مشغول من بقايا الأقمشة، وفوقها فى أعلى الجدار الملاصق لها كوة تدخل منها حزمة من أشعة الشمس، هذه حجرة نومها فى بيت أبيها، وقفت عند مسقط الأشعة كما كانت تفعل وهى صغيرة، وما أن خاطرت ببالها أمنيتها حتى وجدت يديها تمتدان وتمسكان بالخيوط الذهبية وتتسلقها كما لو كانت حبلًا ممتدًا إلى حيث لا تعلم، أجهدها الصعود، فجلست على أول سحابة قابلتها، بعد أن اعتادت السحب المتناثرة من حولها، أخذت تقفز بين السحب وتكوم بعضًا منها ككرات القطن وتنثرها فى الفضاء، فجأة شعرت ببرودة شديدة، وأنها تفقد اتزانها ووجدت نفسها تهبط مع تفكك السحابة وتحولها إلى قطرات مطر، أخذت طريقها إلى مساحة شاسعة من الخضرة، خمنت أنها غابة.. لم تكن قد رأت غابة من قبل، لكنها تتابع بشغف على قناة «ناشيونال جيوجرافيك» برنامج «عالم الغابات».. تصاعد من الخضرة الداكنة صوت ألحان، وكلما اقتربت صار صوت الموسيقى أوضح.. موسيقى لم تعرف مصدرها، كانت تبعث فيها الرهبة والحنين.. استقرت مع قطرة ماء على ورقة شجرة، لم ترغب فى أن تتجول فى الغابة، لم تتخلَ عن حذر قديم لما يحدث للفتيات من كوارث فى الغابة.. رأت أعواد الخيزران الطويلة تعزف ألحانها بنفخ الريح.. حركة الخيرزان الناعمة مع الموسيقى كأنما نومتها مغناطيسيًا، ظهر وجه حفيدها من بين أغضان الخيرزان.. لماذا غفلت عنه؟.. نادت عليه، لم يستجب لها، نزلت برفق من الورقة التى مالت حتى وصلت الأرض، تبعته، باعدت أعضان الخيرزان المتشابكة، كأعواد الذرة فى غيطهم القديم، لكن هذه الغابة كانت غائمة تحجب كثافة أشجارها أشعة الشمس على عكس غيطان الذرة التى تلهبها الشمس، قادها الممر إلى بحيرة على شاطئها، فوجئت بزوجها وابنتها والطفل، فرحت لرؤيتهم، لكنها تساءلت: ما الذى أتى بحفيدها إلى جده وأمه؟، لا تتذكر أنها غفلت عنه، كيف باغتها ومرق إلى الظل؟، لم يكن فى وجه الطفل ما ينبئ بألم، لكنها ظلت مندهشة، أقبل إليها، قبلها، وأجلسها بجوار أمه رغم الاجتماع العائلى، لكنها شعرت أن كل واحد منهم معزول داخل كرة شفافة، وكان كل واحد يحمل قلبه فى يده، كان قلب ابنتها لا يحمل غير صورة حفيدها الذى قفز لكف أمه، وأخذ مكانه.
وعندما نظرت لقلب زوجها كان خاليًا تمامًا، وفى فقاعته كان زوجها قادرًا على الطفو على سطح البحيرة والغوص فى أعماقها، دون أن ينتبه لوجودها.
لم تجد فى نفسها ضيقًا أو ضجرًا، كأنها أنهت مهمة، رددت لنفسها: فقط كنت أريد أن أحصل على شالى وأطمئن على الطفل.
ابتسمت الابنة ابتسامة شاحبة وظلت مشغولة بتنظيف ملابس الطفل.
فكرت السيدة فى العودة، وجدت نفسها على عتبة البيت، وجماعة من الأقارب والجيران وافقين حولها، مسك الشيخ «حسين» يدها بطرف عمامته: وحدى الله يا حاجة، أمانة وراحت لصاحبها.
خرجوا يحملون جسدًا صغيرًا، تحركوا فى الطريق الصاعد، لم تحرك قدميها، تتبعتهم بعينيها، وعادت لتكمل صلاة العصر.