الدستور تبحث عن القصة الحقيقية لـ«حرب كرموز»
حكاوى ولاد البلد مليئة بالشهامة والمروءة وحماية العرض، فكم مرة أنقذ شباب فتاة من التحرش أو الاغتصاب، من أيدى شباب مثله، لكن ماذا سيكون الحال إذا كان المعتدى جنديا أو ضابطا من جيش الاحتلال الإنجليزى؟.
من هنا بدأت «الدستور» رحلة البحث عن حقيقة أحداث معركة كرموز، والتعرف على أطرافها والشهود عليها، وهل كانت فى كرموز بالفعل أم فى منطقة أخرى؟ وهل يتذكرها مُعمرو المكان أم أنها باتت فى طى النسيان؟.
أشباه يوسف المصرى.. سعد هجرس يُلبس الإنجليز وتجار المخدرات «لبس حريمى».. وآخر قنص 20 طائرة بريطانية
«هنا كرموز».. لا حديث فى الشوارع والأزقة إلا عن الفيلم الذى يؤرخ لمنطقتهم، فالشباب على المقاهى يتناقشون فى الأحداث، ويتساءل كبار السن عن حقيقة ما يدور فى القصة السينمائية، والكل يستدعى ذكريات الاحتلال الإنجليزى ويبحثون عبر الإنترنت، فى محاولة لإدراك ما يبرزه الفيلم عن مكان ولادتهم.
ورغم أننا تحدثنا إلى ثلاثة من الأساتذة والباحثين فى الحقبة الحديثة من التاريخ المصرى، لم يشر أحدهم إلى وجود القصة فى أى مراجع أو كتب تاريخية، إلا الدكتور محمد متولى، مدير عام الآثار الإسلامية بالإسكندرية، الذى لفت إلى حادثة مشابهة وقعت فى مدينة رشيد بالبحيرة، فى ما بين الأعوام ١٧٩٨ و١٨٠١ على أيدى الاحتلال الفرنسى.
يقول «متولى»: «تعرض جنود فرنسيون لفتاة مصرية، وعاملوها بخشونة واغتصبوها، فتدخل الأهالى مدعومين بمجموعة من المماليك واشتبكوا مع الفرنسيين، خاصة أن الفتاة كانت من أسرة بسيطة، وقتلوا ضابطا فرنسيا، وبعد الحادث هربوا إلى صعيد مصر خوفا من البطش بهم».
لذلك كان علينا أن نسأل: لماذا كرموز بالذات التى اختارها صناع الفيلم عنوانا لعملهم الفنى التاريخى دونا عن مناطق الإسكندرية الأخرى؟ ولماذا كان الإنجليز مهتمين بتلك المنطقة تحديدا؟.
الإجابة جاءت على لسان أكبر سكان المنطقة، أحمد ضاحى، الذى تخطى التسعين من عمره، وهو أحد أهم تجار كرموز، الذى حكى عما رآه إبان اقتحام القوات الإنجليزية المدينة، وما شهدته من أحداث عديدة، مشيرا إلى أن تلك الواقعة بمثابة «إبرة فى كوم من القش» بين عدة حوادث أخرى.
يسترجع العجوز ذكريات أربعينيات القرن الماضى فى كرموز، عندما أحرقت الطائرات الإنجليزية مخازن الأخشاب والأقمشة والألبان التى كانت تَعمُر بها المنطقة حينها، حيث رأى الجميع أموالهم تحترق أمام أعينهم، وهم يرددون «يا لطيف يا لطيف، يا رءوف يا رءوف»، وبعد ذلك منهم من هرب من الإسكندرية، ومنهم من انتظر حتى تهدأ الحرب ليعود إلى تجارته، فيما اختار هو أن يهرب بضعة أشهر إلى مسقط رأسه بصعيد مصر، مع والده وإخوته.
الإنجليز حينها كانوا فى قمة الدهاء، إذ كانوا يطلبون من الشرطة المصرية تحرير المخالفات على المحال التجارية، والقبض على التجار المصريين ووضعهم فى الحبس، ثم يأتى الجنود الإنجليز للإفراج عن المحبوسين فى الصباح، ليظهروا بمظهر الأبطال أمام التجار، وللوقيعة بين فئات الشعب، حتى إن المصريين حينها كانوا يهتفون «يحيا الإنجليز» نكاية فى الضباط المصريين، حسب رواية «ضاحى».
وهناك قصة شهيرة لضابط شرطة مصرى فى ذلك الوقت، ويُدعى سعد هجرس، إذ كان يواجه جنود الاحتلال الإنجليزى وتجار المخدرات بمنطقة كرموز، ويلقى القبض عليهم ويجردهم من ملابسهم، ويُلبسهم أزياء نسائية، لكسر شوكتهم حتى لا يخاف منهم المواطنون.
كما يتذكر الرجل العجوز ضابطًا مصريًا كانوا يلقبونه بـ«صائد الطائرات»، لأنه كان يتمركز عند عمود السوارى ليقتنص طائرات الاحتلال الإنجليزى العابرة فى سماء كرموز باستخدام مدفع، حتى إنه أسقط ٢٠ طائرة بمفرده.
قصص كرموزية.. «أبوجريشة» تسبب فى الهجوم على القسم.. والإنجليز تركوا «أجولة فلوس» للأتباع
يتوارث أهالى منطقة كرموز قصصا وأسماء حقيقية عايشها الآباء والأجداء، وتناقلها الأبناء والأحفاد عنهم، حكايات عن فتوات كانوا يسيطرون على «كوم الشقافة، اللبان وغيط العنب وجبل نعسة»، أحدهم فتوة اسمه «النيجرو أبوأحمد»، الذى كان يركب حصانا يسميه «الضخم»، يخاف منه الجميع.
كان الفتوة فى الخمسين وقتها، يهابه الكبير قبل الصغير، وعُرف بصدامه الدائم مع زكى طبيلى، ضابط الشرطة، الذى كان يعادى فتوات كرموز.
وهناك حكاية أخرى عن الفتوة إسماعيل الجعب، الذى كان يسرق الإنجليز فى النهار، ويفتح مخازنهم وشونهم ويستولى عليها لصالح الفقراء، فيوزعها عليهم أو يبيعها للتجار المصريين، إضافة إلى فتوة آخر اسمه سلامة الغلأ.
أما القصة الأشهر هناك فى أزقة كرموز، فكانت حكاية «حرامى الغلابة» الذى يُدعى «أبوجريشة»، والذى كان متخصصا فى سرقة الأغنياء، ويعود ليوزع ما سرقه على الأطفال والفقراء، حتى ذاع صيته بين أفراد المنطقة ونال حب الجميع فى فترة السبعينيات. ورغم محاولات قوات الشرطة بكل الطرق الإيقاع به تحت قيادة الضابط يوسف منصور، فإنه لم يسقط إلا بعد أن خدعوه بفتاة أوقعته فى حبها وذهبت به إلى منطقة تسمى «الأنتيكة»، وعندما حاول الهرب أطلقوا عليه النيران فمات.
على ناصية شارع القسم، مبنى قديم يشبه المنازل المحيطة به، أمامه فرد أمن واحد، ومكتوب على لافتته «نقطة شرطة الطوبجية»، هذا هو المكان الذى كان مقر قسم كرموز فى السابق، وعلى عكس ما جاء فى الفيلم بأن القسم عبارة عن فيلا أثرية قديمة، فهو مبنى عادى لا يتميز عما يحيط به من مبان. أمام القسم يجلس رجب شعبان بأصابع مبتورة ولحية بيضاء كثيفة تزينها الحناء. يتحدث الرجل السبعينى عن الإرث الذى تركه الإنجليز لبعض الشخصيات فى كرموز، وأن الضباط الإنجليز تركوا أجولة من الدفاتر والأوراق لثلاثة من الموالين لهم، أحدهم كان يبيع الفلافل والآخر يبيع الذرة المشوية والفول، والأخير كان يمتهن العطارة، وعندما اجتمعوا لتقسيم تركة الأوراق فوجئوا بعشرات الجنيهات فى تلك الأجولة، ثم بعدها فوجئ أهالى كرموز بأنهم أصبحوا من الأثرياء.
محاكمة الفيلم.. المنتج ذهب إلى «غيط العنب» لتسهيل التصوير.. والسيناريست: خيالى فى القصة والأبطال
قبل شهرين من الآن، عندما كان الفيلم فى طور التحضير، ذهب أحد منتجيه إلى منطقة «غيط العنب» بكرموز، وتقابل مع أحد «المعلّمين» بالمنطقة، وهو شاب فى الثلاثينيات من عمره يشتهر باسم «أحمد العرسة»، وقتها اعتقد الأهالى أن هذا الشاب سيكون من أبطال الفيلم، لكن هذا لم يحدث.
بعد عدة اتصالات فى محاولة الوصول إلى هذا الشاب، التقينا «العرسة» لنتعرف إلى تفاصيل ما دار بينه وبين صناع الفيلم.
هو شاب متماسك الجسد يحيط به مجموعة من الشباب يبدون كمساعدين له، جلس يحكى لنا كواليس لقائه بصناع الفيلم، وبنبرة واثقة راح يتحدث عن مقابلته للمنتج محمد السبكى مرات عديدة، لكن من جاءه تلك المرة كان منتجا آخر ومعه أحد ممثلى أدوار الحراس الشخصيين دائمى الظهور فى الأفلام، وطلبوا منه موقعا فى المنطقة لتصوير بعض مشاهد الفيلم الجديد به، وطلبوا منه أى معدات قديمة قد تكون متبقية من الاحتلال الإنجليزى، إضافة إلى أعداد كبيرة من الشباب.
يوضح «العرسة» أنهم شرحوا له ما يريدون تصويره، فقالوا إنهم يحتاجون أعدادًا كبيرة من الشباب يقومون بهجوم كاسح على مقر قسم الشرطة، وطلبوا منه الاتفاق مع الشباب حتى يأتوا مرة أخرى للتصوير، لكنهم لم يتصلوا به مرة أخرى ولم يصوروا أى مشاهد فى المنطقة. بيتر ميمى، مخرج الفيلم، صاحب السيناريو أيضا، كشف لنا أن القصة خيالية، لكن بها بعض التفاصيل التى حدثت بالفعل فى محافظة الإسماعيلية فى فترة الاحتلال الإنجليزى، على حد قوله. يقول «ميمى» إنه ذهب إلى كرموز لرؤية المنطقة عن كثب، وبعدها عدّل بعض المشاهد فى الفيلم فيما يتعلق بالأماكن، موضحا أنه كتب السيناريو بعد أن أخبره المنتج محمد السبكى بنيته إنتاج فيلم يدور حول الإنجليز والشرطة المصرية، بعد أن اعتذر اثنان من الكتاب عن عدم العمل على الموضوع.
ويضيف أنه شاهد واستمع إلى عشرات من الأفلام التسجيلية القديمة، التى توثق فترة الملك فاروق وحقبة الإنجليز وعلاقتهم بالشرطة المصرية، وبحث فى الكتب والمراجع الخاصة بالجيش الإنجليزى، والرتب العسكرية لأفراده، بداية من اللورد والأميرال والجنود، وأيضا عن حياتهم فى مصر.
ويرى مخرج الفيلم أن «حرب كرموز» يجسد ملحمة تاريخية، وأنه تجربة هى الأولى من نوعها فى مصر والتى تؤسس لمدرسة جديدة فى السينما المصرية، ورغم وقوع بعض الأخطاء، نظرا لأنها تجربة جديدة، فإنه يتمنى تلافيها فى المستقبل، وأن تنتشر هذه المدرسة الجديدة بشكل أكبر فى الفترة المقبلة.
أما عن اختياره منطقة كرموز بالتحديد لتصوير أحداث الفيلم، فأوضح «ميمى» أنها أقدم أحياء الإسكندرية أو «الإسكندرية القديمة»، إضافة إلى أنها شهدت الوجود الإنجليزى فى فترة من الفترات، لافتا إلى أنه كان حريصا على التأكيد على عدم وجود ضابط حقيقى فى كرموز يسمى «يوسف المصرى»، وإن تشابهت حكايته مع قصص أخرى من قبيل الصدفة.
وختم «ميمى» أن معظم مشاهد الفيلم جرى تصويرها فى منطقة أبوقير بالإسكندرية، أما باقى الأماكن فكانت ديكورا بُنى خصيصا لتنفيذ العمل.
أما المؤرخة الدكتورة لطيفة محمد سالم، أشهر الباحثين فى حقبة الملك فاروق فى مصر، فترى أنه لا يجوز بناء فيلم تاريخى كامل على الخيال.
وتقول لـ«الدستور» إن قوات الاحتلال الإنجليزى انسحبت من الإسكندرية والوجه البحرى عام ١٩٤٦، وتمركزت بكل عتادها فى مدن القناة، حتى إن الملك فاروق كان يذهب إلى هذه المدن ويرفع العلم المصرى هناك. وترى المؤرخة البارزة أنه لا بد من وجود حدث واقعى بالأساس، وتُترك بعد ذلك مساحة للابتكار فى السيناريو، مضيفة: «نحن فى حاجة إلى إنصاف فى الوقائع التاريخية لتتناقلها وتتعلمها الأجيال القادمة».