رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمد قنديل.. المصارع الذي هَزمْ «الستْ»


فى كل بيت صعيدى قديم حجرة هى الأهم.. اسمها «غرفة الخزين».. فإذا ما كانت فى الدور الثانى من المنزل اسمها «رواق الخزين».. لكنها فى الأغلب تكون فى الدور الأول بعيدًا عن مدخل الباب حيث لا يراها أحد من الضيوف.. وغالبا لها باب بغلق وقفل تأخذ «الحاجة الكبيرة ست الدار» مفاتيحه لتشبكها فى «عقوص شعرها المجدولة».. حيث لا تستطيع إحدى البنات أو زوجات الأولاد الوصول إليه إلا بإذن.

هذه الحجرة تتم فيها عملية تخزين و«تعتيق» أى شىء من أول البلح والعجوة الذى يتم حفظه فى صفايح حتى «يتعتق» ويصبح «عرقًا» -خمرة يعنى- أو عجوة يتم بيعها وإهداؤها للحبايب فى رمضان، وهو الأمر نفسه الذى يجرى على «علاوى الجبنة القريش» التى يتم تعتيقها حتى تصبح «جبن قديم ومش».. وبجوار هذه وتلك «المش والبلح» توجد «أدوار- جمع دور- الغلة.. وهى أوان ضخمة مصنوعة من الطين وروث البهائم ولها شكل «الدورق» ملفوفة الرأس صغيرة.. مفلطحة من الأسفل.. وواسعة.. ولها فتحتان العليا يتم صب الغلة من خلالها.. والسفلى يتم سحب الغلة منها.. يتم السحب من الأسفل حسب الحاجة للطحين أو غيره حتى لا يصاب القمح أو الذرة بالتسوس، فالجديد دائما فى أعلى الدور. وليس بعيدا عن هذه الحجرة، تتم تربية الفراخ أو الفروج.. ومنه «الشامورت».. والعتاقى.. والأخيرة تعنى تلك «الفرخة» التى لا يمكن ذبحها فكلها كما يقول المثل الشعبى «دهون» حيث «الدهن فى العتاقى».. وهى أيضا «البياضة التى تلد الخير والفروج الجديد». أعرف أنك الآن تسأل.. وما لنا ومال الفراخ العتاقى وإحنا بنتكلم عن المزيكا والطرب والغناء الشعبى.. سأجيبك فورا.. فالمطرب الذى أبحث فى سيرته وعنه من هذه النوعية.. هو «عرق البلح المعتق» فى تاريخ الغناء المصرى كله وليس الشعبى فقط.. هو الوحيد الذى هزم أم كلثوم بالقاضية ليس لأن الله منحه جسد مصارع ولكن لأن أحباله الصوتية حار الأطباء فى تفسير مفرداتها.. هو المطرب «العتاقى» الذى حاز كل «زبد» الغناء فى حنجرته واسمه محمد قنديل. لعمنا الراحل كمال النجمى، أهم وأكثر من كتبوا عن الغناء فى القرن العشرين، وحاولوا تفسير مسارات صعوده وهبوطه- تعبير صادم.. حيث يؤكد أن كل رجل منحه الله فى حنجرته «حبلين» أحدهما صادق والآخر كاذب.. والأخير يغنى منه العشرات ممن نطلق عليهم «مطربين» زورا وبهتانا، فيملأ حياتنا النشاز.. ومع كامل محبتى للعم النجمى.. فمحمد قنديل فى ظنى لم يكن يملك حبلين فقط.. بل ستة حبال.. أولها للمروءة والسماحة.. وثانيها للوجع.. وثالثها للحنية.. ورابعها للإيمان.. وخامسها فيه «كل عطارة الصبر» التى عرفها الإنسان فى بلاد العرب.. والأخير «حبل الحرفنة» دون غناء.. فلم أعرف مطربًا يغنى بكل هذه الحنية والشطارة فى آن واحد إلا قنديل الذى استعار بحر القنال فى ذبذبات أحبال صوته وأخفاها، ثم خرج إلينا بجسد وقبضة مصارع.

جدته مطربة.. والده عازف عود.. و«يا ميت لطافة» فتحت له الأبواب
هو قنديل محمد السويسى.. جدته واحدة من أشهر مطربى البدايات اسمها «سيدة السويسية».. وهناك بعض الأسطوانات بصوتها.. ووالده كان عازفًا ماهرًا على العود وأمه جميلة الصوت.. هذه الأسرة التى جاءت من السويس لتعيش فى حى شبرا لم تندهش عندما تعلق قنديل ابن التاسعة بالطرب فذهبوا به إلى معهد الموسيقى الشرقية.. ومن هناك جاءت به أم كلثوم ضمن مجموعة من الشباب لمشاركتها فى أوبريت «القطن» بفيلم عايدة.. ويومها أطلقت صيحتها عن قنديل بأنه «أجمل صوت رجالى سمعته فى حياتها».. كان عمره وقتها يقترب من العشرين.. وذهب إلى مبنى الشريفين ليتم اعتماده مطربا من أول جلسة وينطلق صوته الفذ بأولى أغنياته يا ميت لطافة لتحدد له سكة الغناء الشعبى التى مشى فيها إلى آخر نفس.. وربما كان لجثمانه الذى تأثر برياضة كمال الأجسام التى كان يمارسها جنبا إلى جنب هواية تربية العصافير دخل فى ذلك.. هذا الرومانسى الذى يقضى نصف وقته فى سماع زقزقات العصافير فى غية فوق السطح والنصف الآخر فى ممارسة المصارعة.. عرف طريقه إلى الملاهى الليلية، وأحدها كان «ملهى الكيت كات» وصاحبته راقصة اسمها رجاء توفيق.. وخلال شهور تحول صاحب «بين شطين ومية» إلى نجم الملهى.. وحبيب صاحبته فقررا الزواج بشرط أن تعتزل «رجاء» الرقص وتجلس فى منزلها، وهو ما قبلته لفترة وسرعان ما دبت الخلافات ليتم الطلاق. من باب الملاهى جاءت الزوجة الأولى والفلوس.. ومن بوابة الإذاعة جاءت الأغنيات الأجمل.. فقد تعرف إلى كمال الطويل مبكرًا.. ومنحه الأخير رائعته «بين شطين ومية».

ومعها نفحة أخرى طمع فيها الصديق الأقرب للطويل عبدالحليم حافظ وهى «يا رايحين الغورية.. هاتوا لحبيبى هدية»
>
وعندما علم قنديل السويسى بالأمر ذهب لحليم وأوسعه ضربا.. ليتخاصم المصارع والفتى النحيل لسنوات قبل أن يتم الصلح بينهما ويعيد العندليب غناء «الغورية» التى كانت سببا فى العلقة التى نالها من قنديل الذى عرف بطيبته الشديدة ونقاء قلبه.

أغانيه هى الأرقى فى تناول العلاقة بين الرجل والمرأة مقارنة بـ«عبدالحليم»
لو تأملت أغنيات قنديل العاطفية وخلعت عنها رداء شعبيتها ستكتشف أنها الأرقى فى تناولها العلاقة بين رجل وامرأة.. ذلك لو قارنتها بأغنيات حليم وعبدالوهاب وفريد الغارقة فى «تعذيب الذات إرضاء للحبيب».. وفى مقدمة هذه الأغنيات رائعة عبدالفتاح مصطفى وألحان الموهوب حتى أخمص قدميه عبدالعظيم عبدالحق:
«سحب رمشه ورد الباب
كحيل الأهداب
نسيت أعمل لقلبى حجاب
وقلبى داب».

هذا الدخول المدهش لا يكتبه سوى شاعر كبير.. فهى أغنية مصورة من أول سحبته الرمش وحتى رد الباب وبينهما تلك الصبية التى أدخلت سلاحها فى غمده وأغلقت بيتها فى وجه حبيب لم يعمل لهذا الجمال حسابا ولم يأخذ حذرا بحجاب يحفظه فى مواجهة ذلك السحر لتفتح ساحة مصارعة من نوع عجيب بين عبدالعظيم عبدالحق هذا الموسيقار «القرارى».. وآلاته الناى والتشيلو والكمنجات، وصوت قنديل، وصوت رق ناعم أظنه لعمنا حسن أنور عازف الفرقة الماسية الأشهر.
شوف هذه الجملة الموسيقية الطويلة التى يبدأ عمنا الصعيدى «العتقى» عبدالعظيم من مقام ناعم جارح هو «البياتى» وقنديل يمرح مثل دقات قلب العاشق بين «النوى والشورى»..
هذا السحر من سلطنة «معلم» من أسطوات الموسيقى لا يوازيه إلا سحر تداعى المفردات والمعانى عند عبدالفتاح مصطفى.. ولا يقل عنهما ذلك الوهج الذى يشبه «بص صافى فى ركية نار» فى ليل شتائى قارس.. أو من الآخر حد بيلعب فى حتة قطيفة مش حنجرة:
«نسيم العصر ع القصة
بيحكى فى الهوى قصة
وبين البصة والبصة
تدوب أحباب
نسيت أعمل لقلبى
حجاب.. وقلبى داب»..
حتى هذا المقطع يمكن أن تجلس فى مكانك وتهز رأسك طربا لكنك حتما لن تفعل وأنت تسمع ما يليه:
«كحيل والكحل من بابل
وإمتى عيونا.. تتقابل
يا ريت نظرة ونا قابل
ولو بعتاب..
نسيت أعمل لقلبى حجاب
وقلبى داب».
يا الله.. هل سمع أو قرأ أحدكم وصفا لعيون حبيبه بهذا المنظر الذى وصفه عبدالفتاح مصطفى؟.

غنَّى للثورة وبناء السد العالى وحارب الاستعمار بالكلمات
هذه الأغنية التى سمعتها صدفة بعد ظهر جمعة وأنا عائد من قريتى إلى المدينة للالتحاق بمدرستى الثانوية من كاسيت سيارة بيجو.. كانت عربون محبتى لهذا الكنز اللى اسمه قنديل.. أما الجريمة التى أوقعتنى فى حب الأغانى وحب كتابتها فكانت الثانية والمفارقة أنها كانت المفضلة لأمل دنقل ولولاه لضاعت فى مخازن الإذاعة بعد أن نسيها الأبنودى وراح يبحث عنها فقط لإرضاء صديقه المريض.
«يا ناعسه.. يام العيون الهامسة
يا أم الرموش
تقتل ولا ينفع معاها مسايسة».
يا نهار يا عم قنديل.. ويا ليل مالوش آخر.

يا خال أبنودى:
طول عمرى يا ناس فى حالى
واخد الأيام تسالى..
على غفلة الحب جانى..
ما أعرف جانى منين
مشيتى مشيت وراكى
يا جنتى وهلاكى
ولا عارف إحنا فين
جريح عاشق جراحى
أنا المكسور جناحى..
وحزين ومش حزين..
حد شاف الصورة دى.. حد خد باله الأبنودى بيعمل إيه وهو يرسم حركة مطاردة هذا المحب فى الشارع لحبيبته وكيف حاله؟.
هذه الحالة سبقت بسنوات حالة «فاتت جنبنا» ولا أعتقد أننى فى حاجة لمقارنة.. لكننى فى حاجة إلى أن أدلكم على شارع آخر من شوارع الغزل المبهج مع الأبنودى وقنديل فى ألحان بليغ حمدى وأعتقد أنها بداية الخلط الحلال بين الحبيبة والوطن فى الغناء المصرى.. فمن تلك الحبيبة التى يمكن وصف عينيها بأنها «شباكين على النيل».
«شفت فى عنيكى المداين
والبيوت أم الجناين
والغيطان أم السواقى
والولاد أمات طواقى
والشطوط أم النخيل
شباكين ع النيل عنيكى
شباكين ع النيل».

ولا يمكن طبعا أن تمر على شوارع عيون الحبيبات فى أغنيات محمد قنديل دون أن يقابلك محمود الشريف ولحنه البديع «تلات سلامات.. يا واحشنى.. تلات تيام.. بإيدى سلام.. وعينى سلام.. وقلبى سلام».. ويمكننى أن أستمر طويلًا فى التنقل من حارة إلى أخرى ومن عطفة إلى أخرى.. ويمكننى أن أتحدث طويلا عن «أبوسمرة السكرة.. أبوضحكة منورة».. وأسأل مع قنديل «النهارده فات وعدى ولا لسه يا ترى».. وكيف أنتهى وهى قصة عشق «بهية وياسين».
>
طب اسمع كده:
«أنا عندى غنوة
قالوها زمان وعجبانى
اللى بنى مصر
كان فى الأصل حلوانى».
ولأن قنديل السويسى هذا.. مصنع حلويات لوحده.. سأضطر إلى القفز سريعا إلى حبيبته الأكبر مصر.. فهو واحد من أوائل الذين غنوا لثورة يوليو.. بالتحديد فى أكتوبر ١٩٥٢.. وكان الملك فاروق لا يزال لم يغادر مصر عندما طلب منه الموسيقار أحمد صدقى تسجيل «ع الدوار» التى كتبها حسين طنطاوى لتبشر فلاحى مصر وأُجراءها بالتغيير الذى جرى على يد ضباط يوليو.
«فى الأخبار قلبك متهنى
كنا فى نار وبقينا فى جنة
واللى ظلمنا بقى فى النار
ع الدوار.. ع الدوار».

وخرج المصريون فعلا عاما وراء عام يبحثون خلف صوت قنديل من راديوهات «الدواوير» عن ذلك «الجيش الذى شن الغارة على عزالنا»، و«الجرانين بترد الروح
وتداوى القلبى المجروح، خير جايلنا بالقنطار».
ومن الدوار إلى الحارة لمواجهة العدوان الثلاثى.. وإلى المصانع.. والسد العالى الذى غنى له فى بدايات حفره من كلمات الأبنودى وألحان عبدالعظيم عبدالحق.
«اتمد يا عمرى اتمد
وأعيش وأفرح.
وأشوف بعنيا السد
وشراع ف قارب ماشى
فى بحر الغد..
اتمد.. يا عمرى اتمد
رجال.. أيوه يا جيش العمال
أهو كده فرحنى بعمرى
أهو كده فرحنى أمال».

ولم يكن الأمر بسيطا فى مواجهة الاستعمار الذى رحل ولم يرحل فى الوقت ذاته.. فغنى قنديل مجددا:
يا مهون.. هون. هون
هونها.. وقول
يا مهون.. هون على طول..
وتروّح بلدك يا غريب
وتلاقى على البر حبيب».

وفى مواجهة هذا العدو غنى قنديل.. دون حنجرته القطيفة هذه المرة:
«يا ويل عدو الدار
من ثورة الأحرار».

ومثلما غنى ضد العدوان.. غنى للوحدة واحدة من أشهر أغانيها من ألحان عبدالعظيم عبدالحق وكلمات بيرم التونسى:
«أنا واقف فوق الأهرام
وقدامى ليبيا والشام
أشاهدهم وأهالى كرام
يقول مرحى يا زين
وحدة ما يغلبها غلاب».

لا تستمر الوحدة سوى ثلاث سنوات.. لكن تستمر المؤامرة.. ويستمر صوت قنديل.. صوت «فلاح، صياد، مصارع مصرى»، ليصل رصيده من الأغنيات ما يزيد على ٨٠٠ أغنية فردية إضافة إلى تلك التى تضمنتها الصورة الغنائية بالإذاعة.. و٢٠ فيلما سينمائيا.. وتتر واحد لمسلسل تليفزيونى هو الأخير فى مسيرته من ألحان ياسر عبدالرحمن.. وقتها كان قنديل يعانى من أمراض السكر والقلب الذى أجرى جراحة لتغيير ثلاثة من شرايينه والظهر ومفصل الحوض.. ليخرج صوته محبوسا وكأنه يبحث فعلا عن «يد صديق».
«يا صديق عمرى
يا صاحب ذكرياتى
إنت كنز أيامى..
تحويشة حياتى..
ومراياتى اللى بشوف جواها ذاتى
وتواجهنى بعيبى.. تكشف سيئاتى
تقسى بحنان.. واستزيدك
يا صديقى.. مد إيدك».