رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الدرويشة والمريد «2-5»


واصلت «السيدة» صلاتها، أتمت الركوع والسجود، لكن روحها كانت غائبة، حاولت، أغمضت عينيها.. ركزت فى حروف الكلمات، لكنّ خيالًا تعرفه تشكّل من الدوائر الحمراء والبرتقالية والسوداء التى تكونت فى عقلها وهى مغمضة العينين، ليس هناك أصعب من أن تفقد ولدك.. تشعر بأنك كنت المقصود، أن الموت أخطأك، فلا تكفى قرابين العالم ولا كل الطلعات الموسمية فى المولد النبوى، أول رجب، منتصف شعبان، لترضية روح معلقة بالأرض.

استسلمت لتمزق خلاياها وشتات روحها، تلقت الرسالة، سلمت، ومسرعة التفتت تبحث عن الولد الصغير الذى خطف خمارها.. لا يجرؤ على هذه الفعلة سواه.. رغم أن البيت ملىء بالأحفاد، لكنه الوحيد المحاط بروح أمه، تحاول كثيرًا أن تكون حازمة معه، لكن الجدات غير الأمهات.

بعد وفاة ابنتها، انضم الصغير إليها، أعطاها من حيويته ومن عمره.. فتحسنت صحتها تدريجيًا واختفت الشكوى من خشونة الركبة والتهاب العينين.. لم يكن فى الأمر معجزة، كل مولود يأتى بقدرته، الطفل كان شغلها الشاغل، فلم تكن تترك شئونه لخالته بل كانت تقوم بكل ما يخصه.

كانت واثقة أنه من سحب شالها، وهى تلتفت لمحته يجرى بالشال خارج البيت، أسرعت خلفه، وجدت نفسها عند عتبة البيت.. لم يكن اجتياز العتبة شيئًا سهلًا، آخر مرة خرجت فيها كانت خلف جثمان ابنتها.
- لا تدرى كيف عادت وتركتها هناك.. لم تتركها، كان جسدها ملتصقًا بالحجارة البيضاء، وساقاها أثقل من الموت، شعرت بيد تربت على كتفها.
- يلّا يامه الولد جعان.
لقد نسيت الصغير، وها هى تذكرها به، يا كبدى، هذا الولد هو عوضها عن ابنتها وصلته بها، عندما ترى طيفها أو تشعر بوجودها فى المكان تدرك أن شيئًا ما، خطبًا ما، يلم بالطفل، وأنها حضرت كى تنبهها، تفرح بوجودها، بقربها، وإحساسها بأن ابنتها تتواصل معها، لكن ذلك أيضًا كان يُخيفها من المسئولية ومن التقصير الذى تشعر به أمام ابنتها فى حق حفيدها.. وهى امرأة نسيت الأمومة وتكاليفها منذ زمن، وها هى تعود لها مع طفل قست عليه الحياة مبكرًا وحرمته من السند الأهم.. أمه.
كانت تشعر بأنها مهما حنت عليه لن تستطيع أن تعوضه عن أمه.. لكنها تحاول وتحاول، وقفت على عتبة الباب، نادت على الطفل الذى لوّح لها بشالها: تعالى يا تيتة!
خرجت.. كان الشارع خاليًا، داست على تراب الشارع، كان التراب ناعمًا، رطبًا والشمس غائمة.. لحقت بالطفل الذى أخذ يلوّح بشالها، لم يكن الشارع ممتدًا ومستقيمًا كما تعودت عليه، تغيرت معالم الشارع.. هل يمكن أن يحدث هذا التغيير خلال سنة؟.

الطريق صاعد والطفل يصعد أمامها بخفة.. إنه يطير.. لم تنتبه لصعود الطريق وأنها تبعد كثيرًا عن منزلها، انتبهت إلى أنها تصعد عندما بدأت تلتفت للخلف، فرأت سطح المنزل المجاور لبيتها، لم يكن سطح بيتها ظاهرًا لكنها كانت تشعر بأنها ستراه أيضًا بمجرد أن تواصل مشيها، لم تدرِ إلى أين يصل هذا الطريق، وكان «حسن» مستمتعًا بلهوه، لكن الغريب أنه لم يكن مهتمًا بها، كأنه يسير لوحده فى أمان تام، لم يعد الأمر كما كان باديًا لها أنه يلوّح لها بالشال كى تتبعه، ظلت المسافة بينهما ثابتة مهما تلكع الطفل ومهما اجتهدت فى زيادة سرعتها وشحذ عزمها وهمتها.. واستمر الطريق فى الصعود حتى لكأنه انفصل تمامًا عن الأرض.