رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الدرويشة والمريد (1-5) ‏


وقفتْ تصلى العصر.. كانت الشمس قد انكسرت حدة أشعتها.. هذا هو الوقت الذى تحب أن تؤدى فيه صلاتها، عندما يفرد الظل روحه على الأشياء، خاصة جدران منزلها.. طالما تتبعت الظل ‏فى كل خطواتها.. هل كان ظلًا واحدًا؟ أم أنها ظلال كل الذين مروا بحياتها؟.. الظلال كلها مراوغة.. تضخم وتكبر، تحقر وتصغر من تشاء كيفما تشاء.‏

تتخذ لها جلسة دائمة فى ركن من بيتها، بالتحديد بجوار السلم الصاعد للدور العلوى، كأنها بهذه القعدة تستطيع أن تتطلع وتراقب حركات العالم: الداخلين من الباب الكبير، المارين بالطرقة المؤدية ‏للغرف الداخلية، والصاعدين أو الهابطين من الدور العلوى، الأهم أن تجلس تحت فتحة الشمس بعد صلاة الضحى، تتسلل الأشعة الدافئة إلى عظامها تُخرج برد وشجن ورهبة ووهن السنوات ‏الطويلة. ‏

قرأت الفاتحة.. الحمد لله رب العالمين.. تعرف أنه ما من شىء يمكنها أن تلقى به ربها غير حمده.. تُأنب نفسها كثيرًا إن غفلت عن الحمد. وحدها تعرف ماذا أعطاها ربها، كل الذى تمنت ولم ‏ينطق به لسانها، لكنه وحده اطلع على ما فى نفسها وقال: اذهبى مستجابة الخاطر.. تدمع عيونها وتلهث بالحمد أكثر من مرة.. لا تحب أن تصلى فى حضور أحد.. يفسدون عليها صلاتها فيعقب ‏ابنها فتحى: يا ماما لا يصح أن تضعى يديك على قلبك وأنت تصلين.‏
تبتسم فى صمت، وأحيانا تهز رأسها وتقول: حاضر.‏
وعندما ينزاح شالها، ويتراجع عن شعرها الأبيض الخفيف عند سجودها، تسرع ابنتها لتسوية الشال الكشمير على رأسها. وعندما تتكرر الحركة تنصحها ابنتها: يا ماما البسى خمار حتى لا ينكشف ‏شعرك. ‏

ولا تستطيع أن تقول لها إنها لا تحب الخمار وإنه يخنق رقبتها، وإنها تشعر بالراحة أكثر مع شالها، ولا تستطيع أن تقول لابنها إنها تضع يديها على قلبها تربت عليه وتدعوه أن يهدأ وأن يستكين.. ‏وإنها تشعر فى صلاتها أن قلبها سيطير وأنه سيجذبها للأعلى فتتشبث قدماها بالبساط العشبى الممتد على سجادة صلاتها التى لا تسلم من ملاحظة أن سجادات الصلاة كلها تحتوى صورة للكعبة، فما ‏بال سجادتها قطعة قطيفة عادية مزخرفة بالعشب والزهور، يشترون لها سجادات صلاة رسمية، لكنها تفضل سجادتها، عندما تقف عليها تستحضر تصورها عن الجنة، ظلال رائقة لأشجار كثيفة ‏متداخلة وأرض عشبية ندية مخملية كسجادة شيرازية، يغوص كفا قدميها فيها.. راحة تُطمئِن الروح ونعومة تهدد القدمين المثقلتين من الخطو فى الأرض المقفرة. ‏

كل ما يحيط بها يفسد عليها رؤاها، أحلامها.. ما يجعلها تسأل الشيح «حسين» عندما يأتى لتناول القهوة معها كما ظل يفعل طوال أربعين عامًا. يضحك الرجل الذى يزاملها فى العمر: يا حاجة! هو ‏الذى يقبل، وهو الذى يرد.‏
وعندما يستمع أولادها وأحفادها إلى رأى الشيخ حسين.. يضحكون: طبعًا وهو الشيخ حسين هيقول إيه غير ما يريح الحاجة. ‏
فليضحكوا.. صحيح أن البعض يتغامز بحب الشيخ الصامت لها، لكن الشيخ الحافظ لكتاب الله لن يغضب ربه من أجل «الحاجة»، ثم إنه إذا كان يحبها فعلًا.. فسيكون حريصًا على علاقتها بربها ‏ولن يرضيه أن تقصر وتدخل النار.. تطمئن «الحاجة» نفسها وتكمل صلاتها. ‏
نهضت من الركوع، وفى وقفتها ربتت أعلى صدرها الأيمن وهى تردد داخلها: ممتنة يا رب، ورفعت يدها ووضعتها على رأسها.. وفجأة شعرت بيد تجذب شالها وتأخذه بعيدًا.. ارتبكت.. ‏احتارت: هل تكمل الصلاة أم تسلم وتسترد شالها؟!.‏
يتبع..‏