رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تعقيدات المشهد الأمريكى بعد الخروج من الاتفاق النووى


إعلن الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، مساء الثلاثاء أن مصير الاتفاق النووى مع إيران «٥+١»، أصبح من وجهة النظر الأمريكية صفحة من الماضى، وفق قرار انسحاب الولايات المتحدة منه ومن تبعاته، بل والعودة بوجه أكثر تشددًا فى إدارة علاقتها مستقبلًا مع طهران. وهى خطوة حبس لها الكثير من الأطراف أنفاسهم، ووضعوا العديد من السيناريوهات، تضمن البعض منها، تخريجًا آمنًا لبخار احتقان الأزمة. والبعض الآخر بذلوا المساعى للالتفاف على التداعى الخطير للخطوة والذى بدا ماثلًا للعيان.
الإدارة الأمريكية بهذا القرار؛ تكون قد مضت قدمًا متجاهلة المناشدات الأوروبية الأخيرة، والتى ستعكس مستقبلًا تصدعًا بقدر ما فى جبهة حلفاء افتراضيين، فضلًا عن شراكتهم القانونية بالاتفاق محل الخلاف. فهؤلاء ممن حاولوا إيجاد نقطة منتصف، خشية الخطر الذى سيؤدى له الانسحاب من الاتفاق، على أمن وسلامة الشرق الأوسط بشكل خاص، والأمن العالمى بشكل عام. أقرب الحلفاء وزير الخارجية البريطانى «بوريس جونسون»، عبّر عن ذلك بوضوح فى واشنطن قبل أيام: «نعتقد أننا يمكن أن نكون أكثر تشددًا مع إيران، وأن نتعامل مع قلق الرئيس. من دون التخلى عن الاتفاق، فالخطة البديلة لا يبدو أنه تمت بلورتها حتى الآن». وهذا يبدو تلخيصًا؛ هو الأكثر إيجازًا وتعبيرًا عن الموقف الأوروبى من مجمل الأزمة.
فهناك السيناريو الأسوأ؛ الذى يفترض أن انسحاب واشنطن وربما انسحاب طهران من الاتفاق لاحقًا، سيؤدى إلى إضعاف آلية الرقابة على المشروع النووى الإيرانى، وربما يتبعه تنامى فرص إيران فى تطوير سلاح نووى، كما قد تنفتح أمامها أيضًا آفاق إنتاج واستخدام المنظومات الصاروخية الباليستية. باعتبار أن الانسحاب من الاتفاق سيجعل سياسة طهران أكثر عدائية فى المنطقة، وأنها قد تنخرط بصورة أكبر فى سياسات عدائية تجاه دول الخليج، وفى المقدمة منها السعودية. حيث تمثل الأخيرة العدو الإقليمى الرئيسى لها، ويخوض كلاهما ضد الآخر، حروبًا بالوكالة عبر وكلاء ظاهرين فى عدة دول حاليًا، ولا يجوز استبعاد أن يتطور الأمر لاحقًا إلى حروب مباشرة.
مما لا يمكن استبعاده من المشهد؛ ما قام به رئيس وزراء إسرائيل مؤخرًا، مستعرضًا ما أطلق عليه «الملفات النووية السرية» لإيران. باعتبار أنه نجاح لتل أبيب، فى كشف وثائق لم يرها العالم من قبل، تثبت أن إيران كانت تسعى سرًا لإنتاج أسلحة نووية. رغم أن العديد من الخبراء علق على العرض المسرحى الذى أتقن نتنياهو فى صناعته، بتأكيد أن «وكالة الطاقة الذرية» التابعة للأمم المتحدة، كانت على علم بكل ما تحويه الوثائق التى كشفها نتنياهو قبل عام ٢٠١١، وأن الولايات المتحدة كانت على علم به أيضًا، حتى قبل ذلك. وأن ما كشفته الوثائق بالفعل، هى الأسباب الرئيسية التى دعت الإدارة الأمريكية السابقة فى المقام الأول، إلى إبرام الاتفاق النووى مع إيران. بغرض الحيلولة دون دخول طهران إلى سباق التسلح النووى، وامتلاكها القدرات التقنية والمعرفية والمواد اللازمة لتصنيع قنبلة نووية.
وقد جاء ما سبق؛ فى ظل ما شهدته الفترة الأخيرة من تصعيد وتبادل للتهديد بين مسئولين إيرانيين وإسرائيليين، حيث يعد مثاله الأبرز الهجوم الأخير الذى اتهمت إسرائيل بشنه، على قاعدة عسكرية فى سوريا «ريف حماة مقر اللواء ٤٧»، معتبرة أنه يخدم فيها عسكريون إيرانيون، وأدى الهجوم إلى مقتل عدد من هؤلاء العسكريين.فى المقابل توعدت إيران؛ بأن ردها على تلك الهجمة الإسرائيلية هو بمثابة الأمر الحتمى المنتظر. فى ظل كل هذا التوتر؛ يخشى كثيرون من أن يزيد الانسحاب من الاتفاق النووى، من مخاطر اندلاع حرب وشيكة بين البلدين، ربما يتسع نطاقها بحيث لا تقف عن حدود الأراضى السورية، وهى الساحة المعبأة بالخطر وكل مكونات الاحتقان الجاهز للانفجار.
الموقف الروسى؛ باعتبار موسكو عضوًا فى الاتفاقية فضلًا عن تحالفها القائم مع طهران، عبّر عنه نائب وزير الخارجية الروسى «سيرجى ريابكوف»، حيث صرح قبيل ساعات من القرار الأمريكى، بقوله: «ندعو الولايات المتحدة، للامتناع عن الخطوات المتهورة، وعدم إفشال هذا الاتفاق». فى إشارة واضحة إلى أن موسكو لا ترى أساسًا، لاعتبار إيران تسير فى طريق إنشاء القنبلة النووية، استنادًا إلى أن الاتفاقية أنتجت خطة عمل شاملة مشتركة، وضعت بموجبها حواجز لا يمكن تجاوزها، لإنشاء المكونات المطلوبة لإجراء تطوير للأسلحة النووية.
فى ظل هذه المواقف والتقديرات؛ من مختلف الأطراف ذات الارتباط بالمشهد. على ماذا يراهن الرئيس الأمريكى مستقبلًا؟، ما يمكن الإجابة به حتى كتابة تلك السطور، أن ترامب يعتمد على حزمة «متنامية» من العقوبات على إيران، ستفرضها واشنطن بشكل صارم و«غير مسبوق» كما جرى توصيفها. باعتبار أن تلك العقوبات ستساهم فى تعميق أزمة طهران الاقتصادية، ومن ثم يمكن إحداث خلخلة فى تمددات إيران السياسية والصاروخية. لكن تبدو تلك الفرضية شديدة التعقيد، فضلًا عن كونها غير واقعية حسب الخبرات الإيرانية السابقة، فى احتواء والتعامل مع العقوبات الاقتصادية. فى وقت تعيش فيه المنطقة على برميل من البارود، يبدو الأقرب فيه هو اشتعال الخيار العسكرى واللجوء للقوة، فلم تكن القوة العسكرية لمختلف الأطراف بهذا القدر من الاقتراب من قبل، ليس من بعضها البعض فحسب، بل أيضًا فى تقاطعات ميدانية لم تسوّ حساباتها ومغانمها بعد.
عقب ساعات من القرار الأمريكى، أعلنت طهران لامتصاص الصدمة بقاءها داخل الاتفاق رغم الانسحاب الأمريكى. وهذا يحقق لإيران مساحة للحركة خلال الأيام القادمة، على المسار الأوروبى والروسى، كى تحاول تفريغ المشهد الجديد إلا من واشنطن وتل أبيب. وكلتاهما قد لا يرضى حساباتها، سوى اللجوء إلى خيار عمل عسكرى، يتجاوز فى دوافعه أزمة إيران، لتحقيق حزمة أهداف أخرى تخص الإقليم برمته.