«كريستين حنا».. قصة أول مسيحية متخصصة فى الدراسات الإسلامية بالجامعات المصرية
فى بلد يوجد به عشرات الجامعات ومئات الكليات وآلاف الأساتذة، فإن ترقية أستاذ جامعى لم تعد خبرًا يمكن التوقف عنده، ففى كل طلعة صبح ستجد قرارات بالترقى، ودرجات علمية تُمنح وعبارات المجاملة تتردد، وغالبًا لا يهتم بها أحد خارج أسوار الجامعات.
لكن قرار ترقية د. كريستين زاهر حنا، إلى درجة أستاذ مساعد والذى وقّع عليه رئيس جامعة قناة السويس د. شمس الدين محمد شاهين، يستحق أن نقف عنده، فهى ليست ترقية روتينية، بل حلقة جديدة فى معركة طويلة خاضتها د. كريستين، معركة تستحق أن تُروى وتُوثق وتُقدم نموذجًا باهرًا لمن أراد أن يتعرف على صور حية من «شخصية مصر» كما رآها جمال حمدان. قبل نحو عشرين عامًا، قررت الطالبة كريستين زاهر، أن تصبح أول مسيحية تقوم بتدريس اللغة العربية والدراسات الإسلامية، كان القرار وقتها فوق المنطق والعقل وإلى الجنون أقرب. فمن الذى سيسمح لمسيحية أن تُدرس الإسلام لطلاب مسلمين؟، لكن كريستين أجبرت الجميع على أن يسمحوا ويستجيبوا ويوافقوا، وعندما تجرى ترقيتها مؤخرًا إلى درجة أستاذ مساعد فى قسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية بكلية التربية جامعة قناة السويس، فإننا أمام حدث كبير يستحق منا الإعجاب والتهنئة لأول مسيحية تحصل على هذه الدرجة العلمية فى تدريس العربية والإسلام، القصة طويلة ومليئة بالتفاصيل والمواقف الدرامية.
حفظت ٣ سور من القرآن استجابة لشروط القسم.. وأصدقاء والدها المسلمون ساعدوها فى فهم الفقه
البداية كانت من محافظة بورسعيد. فعلى ضفاف بحرها كان ميلاد كريستين زاهر حنا لأسرة مسيحية مصرية متدينة اعتادت أن تؤدى الصلوات والصيام، وتذهب إلى الكنيسة كل أحد، عسى أن يقبلها الله فى ملكوت السماء، ويفتح لها أبواب رضاه وجنته. فى أسرة زاهر حنا أنت على موعد مع مصر الحلوة، حيث الدين لله والوطن للجميع حقًا وفعلًا، وحيث تجد المصحف جنبًا إلى جنب مع الإنجيل، وحيث تسكن فى عمارة «مكة المكرمة»، وحيث الجيران والأصحاب من المسلمين، وحيث تسمع من «أم كريستين» أن طائرات العدوان الثلاثى عندما ضربت بورسعيد، فإن إحدى قذائفها سقطت على بيت ابن عمتها، فحولته إلى أطلال تحتها أشلاء قريبها وجاره المسلم فدفنا بقبر واحد، حيث اختلط اللحم والدم. فى بيت زاهر حنا لم يكن غريبًا أن يُنتج ابنة تحمل كل هذه السماحة، وكل تلك المحبة التى تتجسد فيها مصر كما قال جمال حمدان: «مصر كانت دائمًا طرفًا فى قصة التوحيد بفصولها الثلاثة: فكانت لموسى قاعدة ومنطلق، ولعيسى ملجأ وملاذ، بينما كانت مع النبى هدية ومودة».
فى المدرسة وجدت كريستين نفسها منجذبة للغة العربية، مأسورة ببلاغتها وسحر إيقاعاتها، تستمتع بحفظ الشعر الجاهلى وترديده وتنتظر حصص مدرس اللغة العربية «سليمان الفار»، تسمع وتستوعب وتفهم القواعد النحوية الصعبة، وتجيب بسهولة عن أسئلته الخادعة لتحصل على ٤٥ من ٥٠ فى امتحان اللغة العربية فى الثانوية العامة.
وإلى كلية التربية ببورسعيد حملت كريستين أوراقها وأحلامها، وفى السنتين الدراسيتين الأوليين، لم يكن هناك ما يلفت النظر سوى تفوقها العلمى، ولما كان عليها أن تختار قسمًا وتخصصًا فى السنة الثالثة، فإنها ذهبت بهدوء واختارت قسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية، وظنت إدارة الكلية أن هناك خطأ ما، فكل الطلبة المسيحيين بها يتوجهون غالبًا إلى قسم اللغة الإنجليزية، أما أن تختار طالبة مسيحية التخصص فى اللغة العربية والدراسات الإسلامية، فهى واقعة استثنائية وغير مسبوقة ولما بان أن طلبها مقصود مع سبق الإصرار، فوجئت كريستين بأن عميدة الكلية وقتها د. آمال العرباوى توافق بلا تحفظ، وفوجئت بأن راهب الكنيسة التى تصلى بها يوافق بلا تحفظ وأسرتها دعمتها، ووقفت إلى جوار حلمها ولم تجد ما يمنع أن تتخصص ابنتهم فى الدراسات الإسلامية.
وتزداد المفاجآت إثارة، فقد كان من شروط الالتحاق بالقسم أن يحفظ الطالب ثلاث سور من القرآن الكريم وعددًا من الأحاديث النبوية، ونظرًا لتلك الحالة الاستثنائية فقد عرضوا عليها إعفاءها من هذا الشرط، لكن كريستين أصرت على أن يعاملوها كأى طالب مسلم بلا استثناء، وكان المشهد مهيبًا عندما جلست كريستين فى بيتها بجوار صور وأيقونات السيدة العذراء والسيد المسيح لتحفظ سور: «الإسراء والنبأ والنور»، ووالدتها تمسك بالمصحف لتراجع معها حفظ الآيات القرآنية.
والتحقت كريستين بقسم الدراسات الإسلامية ورغم تفوقها إلا أنها وجدت صعوبة فى بعض المواد ذات الطبيعة الخاصة كالفقه والشريعة، وكان الحل مذهلًا: تسابق أصدقاء والدها المسلمون إلى مساعدة كريستين، وتوفير ما تحتاجه من كتب الفقه والتفاسير، وتسابق أساتذتها فى القسم إلى شرح ما استغلق عليها من مسائل فقهية وشرعية، وسرعان ما وجدت كريستين نفسها تتألق علميًا وفكريًا فى الدراسات الإسلامية، وهو ما تجلى فى الأبحاث التى كان عليها أن تعدها، وما زالت تحتفظ بتلك الأبحاث: «الصوم فى الإسلام والمسيحية» و«الطب النبوى» و«مكانة العلم فى القرآن والسنة النبوية»، وفى كل بحث كانت تستند إلى آيات القرآن وأحاديث النبى وتوظفها ببراعة لخدمة البحث العلمى.
كانت كريستين مُنكبة على دراساتها الإسلامية، فى الوقت الذى كانت تواظب فيه على صلواتها المسيحية فى البيت والكنيسة، ولم تجد فيما تفعله أى تناقض بل كانت كلما تعمقت فى دراسة الإسلام، اكتشفت أن «النور يخرج من مشكاة واحدة» فى الديانتين، فكلتاهما دعوة للحب والتسامح وسعادة الإنسان. هذه الروح السمحة أصيلة فى الشخصية المصرية، بدليل مثلًا أن أحمد بن طولون مؤسس الدولة الطولونية الإسلامية فى مصر عندما أراد أن يبنى مسجده الشهير، فإنه استعان بالمهندس القبطى سعيد بن كاتب الفراغانى، فبنى له واحدًا من أجمل المساجد فى العالم، و«الفراغانى» هو الذى بنى أيضًا له مقياس النيل، وفى المقابل تجد عشرات من المعماريين والأثريين المسلمين شاركوا بإخلاص فى ترميم الكنائس المصرية.. هكذا عشنا، شعب واحد بديانتين وحيث الوطن يتسع للجميع.
شيخ الأزهر سيد طنطاوى تدخَّل لتعيينها «مُعيدة» بعد رفض المتعصبين.. وحصلت على ترقية «أستاذ مساعد»
عندما تخرجت كريستين عام ٢٠٠١ لتحتل المركز الأول على قسم الدراسات الإسلامية، فإن هناك من استكثر عليها أن تُعين معيدة وتقوم بتدريس اللغة العربية والدراسات الإسلامية للطلبة المسلمين، فسعوا إلى حرمانها من ذلك الحق المبين وكادوا ينجحون بتعصبهم وطائفيتهم أن يوقفوا تلك التجربة الفريدة فى مهدها، ويزيحوا كريستين من القسم، لكن التى تحدت بجسارة وشجاعة وكانت أول مسيحية تدرس فى قسم الدراسات الإسلامية، قررت أن تواصل التحدى وتنتزع حقها.. فلجأت إلى شيخ الأزهر.
لا تنسى كريستين زاهر ذلك الصباح الذى دخلت فيه مشيخة الأزهر بصحبة والدها، لتقدم شكواها للإمام الأكبر، طالبة منه الإنصاف وما زالت تحتفظ فى أوراقها بنص الطلب المكتوب بخط اليد، الذى قدمته للدكتور محمد سيد طنطاوى وتأشيرته التى أعادت الحق إلى أهله: «بسم الله الرحمن الرحيم.. صاحب الفضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. مقدمه لسيادتكم كريستين زاهر حنا.
أولًا: الحاصلة على ليسانس الآداب والتربية قسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية بتقدير عام جيد جدًا مع مرتبة الشرف بنسبة ٨٢.١٪، والأولى على القسم بكلية التربية ببورسعيد، جامعة قناة السويس، ولأول مرة فى تاريخ الجامعات المصرية حيث إننى طالبة مسيحية وكان لى الشرف أن أحقق هذا المركز.
ثانيًا: قمت بعمل عدة بحوث إسلامية كان آخرها بحثًا بعنوان «مكانة العلم فى القرآن الكريم والسنة النبوية»، حصل هذا البحث على المركز الأول فى مجال البحث العلمى على مستوى جامعة قناة السويس، وأشارت إليه جريدة الأهرام بتاريخ ١١١١٢٠٠١، وكذلك عدة جرائد ومجلات، وطموحى أن أكمل دراستى فى أحد الأقسام التربوية طبقًا لنظم ولوائح الكلية.
ثالثًا: تقدمت بطلب إلى قسم المناهج وطرق التدريس، ووافق القسم على قبولى معيدة به، مع الترحيب الشديد من أساتذتى وعرض القسم احتياجاته على مجلس الكلية، وللأسف فوجئت بترشيح غيرى، مع العلم بأن هناك ثلاثة معيدين وافق عليهم المجلس ليس لهم ترتيب عام على الكلية.
رابعًا: نلتمس من فضيلتكم تزكية أمرى هذا لدى المسئولين بجامعة قناة السويس فى الحصول على حقى بما ترونه فضيلتكم تحقيقًا للعدل والمساواة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مقدمه لفضيلتكم كريستين زاهر حنا، الأولى على قسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية دفعة ٢٠١٠ ومقيمة ببورسعيد».
وتعاطف شيخ الأزهر الراحل محمد سيد طنطاوى مع كريستين، ولم يجد ما يمنع قانونًا ولا شرعًا، قبولها معيدة فى قسم الدراسات الإسلامية، وعلى نفس الطلب كتب الإمام الأكبر بخط يده تأشيرة موجهة إلى وزير التعليم العالى د. مفيد شهاب: «للتكرم بالاطلاع واتخاذ ما يراه سيادته حقًا وعدلًا».. شيخ الأزهر محمد طنطاوى ٢٢٤٢٠٠٢، وخلال أيام جرى تعيين كريستين زاهر حنا معيدة فى كليتها.. حقًا وعدلًا.
وبدأت رحلتها للحصول على درجة الدكتوراه: ففى عام ٢٠٠٣ نالت الدبلومة العامة، ثم دبلومة خاصة فى العام التالى بتقدير جيد جدًا، وسجلت للحصول على درجة الماجستير، وناقشت رسالتها فى عام ٢٠٠٦ فى كلية التربية بجامعة عين شمس وكان موضوع رسالتها: «تقويم تدريس الأدب العربى بالصف الأول الثانوى العام»، وفى ٢٠١٠ حصلت على درجة دكتوراه الفلسفة فى التربية «تخصص مناهج وطرق تدريس» وكان عنوان رسالتها: «فاعلية استخدام استراتيجية المسارات المتعددة ومراقبة الفهم فى تنمية مستويات الفهم القرائى لدى تلاميذ المرحلة الإعدادية».
ومؤخرًا جرت ترقية د. كريستين إلى درجة أستاذ مساعد.. لتواصل معركتها الطويلة الشاقة ولتكون - قريبًا - أول أستاذ مسيحى فى الجامعات المصرية فى اللغة العربية والدراسات الإسلامية.
ندعو لإنتاج فيلم تسجيلى كبير عنها ليوقف ابتزازنا دوليًا بملف الأقباط
لم تحظ د. كريستين زاهر حنا بما تستحقه من اهتمام إعلامى، كحالة مصرية فريدة تثبت مقولات جمال حمدان عن عظمة الشخصية المصرية، وما قدمته من دروس للبشرية، بما فيها حالة التعايش المدهشة بين الإسلام والمسيحية فى مصر: «أمة وسطًا بمعنى الكلمة».. و«مصر لا شرقية ولا غربية بل فلتة جغرافية حضارية متفردة»
فيلم تسجيلى واحد مدته «١٨» دقيقة هى كل ما صنعناه عن تجربة د. كريستين، وبالأدق صنعته مخرجة موهوبة تنتمى لمبنى التليفزيون، فقبل عشر سنوات حملت أسماء إبراهيم كاميرتها، وذهبت إلى كريستين زاهر تصور تجربتها وتوثقها وتصنع عنها فيلمًا، فدخلت بيتها ونقلت صورة حية لتلك الأسرة المسيحية المصرية التى صنعت هذه السيمفونية الوطنية.
تحكى لى أسماء إبراهيم: «عندما ذهبت لعمل معاينات التصوير ودخلت بيت كريستين وجدتنى أمام أسرة مسيحية مصرية لا تختلف عن أى بيت مصرى مسلم، أهلها فى بورسعيد شبه أهلى فى الوراق، نفس الأم المؤمنة بحلم ابنتها، نفس الأب المقاتل وراء طموح ابنته ورغبتها مهما كانت صعبة، نفس الطقوس فى الأكل والشرب والمعيشة والهموم وخفة الدم.. نفس التدين المصرى البسيط والسهل القادر على التعايش مع كل الأديان فى سماحة ويسر، فلم يمنع كريستين المتدينة المحبة لعقيدتها والمواظبة على صلواتها أن تدرس الإسلام، وتتعامل معه كحضارة وثقافة بنفس المحبة والاحترام.
هى لا تدعى ولا تتجمل، وهو ما رأيته فى تفاصيل كثيرة ومواقف عدة. فتلك السماحة تتجلى مثلًا فى علاقتها بفاطمة النبوى زميلة دراستها فى الثانوية والجامعة والدراسات العليا، فهى أقرب صديقاتها، وكانتا تنزلان معًا فى غرفة واحدة أثناء سفرياتهما للقاهرة، والمدهش أنهما حصلتا على درجة الماجستير فى يوم واحد وفى نفس القاعة ومن نفس الكلية وبلجنة مناقشة واحدة، بدأت كريستين مناقشة رسالتها فى الحادية عشرة صباحًا، وفى الواحدة كانت تجلس لتدعم زميلتها وصديقتها.. ولتتعانقا فى نهاية هذا اليوم المشهود.
فى أثناء تصوير الفيلم، أخذت كريستين إلى كل الأماكن التى رأيت فيها مناطق تماس بين المسيحية والإسلام، وفيها تتجسد الروح المصرية الحقة المتسامحة الصافية، من معبد الأقصر الذى يتجاور فيه مسجد سيدى أبوالحجاج الأقصرى مع المعابد الفرعونية مع الكنيسة القديمة إلى مسجد ابن طولون الذى بناه مهندس قبطى مصرى مسيحى، إلى بورسعيد بلدها الذى تتجلى فيه المحبة الوطنية وحيث الشخصية المصرية كما صورها جمال حمدان.
هذا ما تتذكره أسماء إبراهيم عن فيلمها القصير الأول الذى أسمته «كريستين.. عبقرية مكان» من إنتاج قنوات النيل المتخصصة عام ٢٠٠٨ فى عهد المهندس أسامة الشيخ، ورغم مرور عشر سنوات على الفيلم، إلا أن مخرجته ما زالت على تواصل مع د. كريستين، بل تحولت العلاقة من صداقة إلى علاقة أسرية، وتكلمك أسماء إبراهيم بأريحية عن «سامح خريستو» على أنه زوج أختها وعن ابنتهما الجميلة «لى لى»، وكأنها بنت أختها.
سامح هو زوج د. كريستين وكان ولا يزال من أكبر الداعمين لحلمها، ولم يجد أى مشكلة فى أن تتخصص زوجته فى الدراسات الإسلامية، وهو الرجل المسيحى المتدين وعاش معها حلمها ومعركتها منذ نضالها لانتزاع حقها فى التعيين كمعيدة، إلى ترقيتها لدرجة أستاذ مساعد.
عشرون عامًا مرت على «معركة» الدكتورة كريستين، وعشر سنوات على الفيلم الوحيد عنها، وهى مناسبة لندعو لإنتاج فيلم جديد مكتمل عنها، بإمكانيات تليق بتجربتها كحالة ناصعة على تجربة مدهشة فى الوحدة الوطنية، يمكننا أن نقدم نسخة منه إلى لجنة الحريات فى الكونجرس الأمريكى، فى كل مرة تحاول أن تبتزنا فيها بملف الأقباط، مع كارت رقيق من ورق البردى عليه «مع تحيات مصر التى أنجبت أول أستاذة مسيحية فى الدراسات الإسلامية».