رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رأس تيلرسون.. أول الطائرين فى «حرب الغاز»


الإثارة ربما تبدأ ممّن قام بترشيح ريكس تيلرسون، للعمل ضمن طاقم الإدارة الجديد للرئيس دوناد ترامب. حيث تبين أن كلًا من وزيرة الخارجية السابقة الشهيرة كوندوليزا رايس، ووزير الدفاع السابق روبرت جيتس، هما من قدما تيلرسون لشغل منصب وزير الخارجية، بل قاما بممارسة ضغوط ملموسة داخل أروقة النخب الجمهورية، كى يمرر ريكس تيلرسون إلى مقعد وزارة الخارجية التى من المعلوم محورية الملفات التى تضطلع بها، مما جعل شاغل المنصب يوصف على الدوام بالرجل الثانى فى الإدارة.
لم يشعر ترامب بالقلق بداية، من الاستجابة لاثنين من مشاهير حزبه الجمهورى كى يعطى هذا القادم من مجتمع الأعمال هذا المقعد الثمين، مراهنًا على أنه سيتمكن حتمًا من التعاون المثمر مع مَنْ أدار شركة «إكسون موبيل» لعشر سنوات كاملة، حيث قضى فيها تيلرسون مشواره الوظيفى بداية من ١٩٧٥، وتدرج من مهندس تنقيب عندما كانت الشركة لا تزال «إكسون» فقط، قبل اندماجها مع شركة «إسو» لتصبح سادس أكبر شركة فى العالم من حيث الإيرادات.. تلك الشركة الأخيرة كُشف فى يناير ٢٠١٧ عن أنها قامت بإجراء تعاملات وصفقات ضخمة فى كل من إيران والسودان مخترقة بشكل سرى الحظر والعقوبات الأمريكية، التى كانت مفروضة على كلتا الدولتين..
كما سُجل على تيلرسون سابقًا فى عام ٢٠١٤ رفضه بشدة العقوبات الأمريكية المفروضة على روسيا، حيث كان يؤسس حينها شركة (أمريكيةروسية) مشتركة تعمل فى مجال النفط والغاز، وعُين مديرًا لها فيما بعد!.
ووفق الرصيد السابق من المهارة والنفوذ الذى تمتلكه «إكسون موبيل» فى القدرة على كسر أطواق الحظر والعقوبات المفروضة على بعض أنشطة القطاع الذى تعمل فى كل مراحله التجارية- أسرع أمير قطر فى يونيو الماضى بعد أيام من فرض المقاطعة العربية عليه باستدعاء رجل الظل لريكس تيلرسون فى «إكسون موبيل» إلى الدوحة، حيث وصلها على عَجَل ليقوم تميم بالاجتماع معه على مدار يوم كامل صحبة الطاقم القطرى المسؤل عن ملف الغاز القطرى.. رجل الظل هذا هو «دارين وودز» الرئيس التنفيذى لإكسون موبيل، وقد استجاب سريعًا لهذا التحرك العاجل، فى أعقاب اضطرار الدوحة لإغلاق أكبر مصنع لـ«غاز الهيليوم»، المستخدم بالقطاعات الطبية، حيث تعد قطر ثانى أكبر مصدر له فى العالم، بعد قرار غلق المنفذ الحدودى البرى الوحيد للدوحة عن طريق السعودية، وإغلاق الموانئ البحرية، التى كانت تستخدمها مع دولة الإمارات.
لم يكن هذا الاستدعاء غريبًا أو متجاوزًا، فهناك اتفاقيات تطوير بين قطر وإكسون منذ ما يزيد على ١٠ سنوات، حيث ساعدت الشركة الأمريكية العملاقة قطر على أن تصبح، أكبر بلد مصدر للغاز الطبيعى المسال فى العالم. واستثمرت إكسون وقت تولى «ريكس تيلرسون» قيادتها التنفيذية مع شركة «قطر للبترول» فى محطات لمعالجة الغاز الطبيعى المسال، وسفن للنقل، وفى البنية التحتية، التى بدا يلوح أن هذا جميعه مهدد بالتعطل، خاصة مع غلق المنافذ البحرية الإماراتية المهمة بشكل رئيسى فى تصدير الغاز.. وأثار تميم الخوف لدى «دارين وودز»، كون الخلاف الدبلوماسى قد يؤثر بشأن إمدادات الغاز الطبيعى المسال القطرية إلى الأسواق العالمية، خاصة بعدما أعلنت بعض الموانئ فى منطقة الخليج أنها لن تسمح بدخول سفن ترفع علم قطر.
تابع بعد ذلك العالم كله الارتباك الذى لم يكن مفهومًا حينئذ، أو ربما الذى كان يحدث من الولايات المتحدة للمرة الأولى، ففى الوقت الذى وصف فيه ترامب صراحة بأن «قطر تدعم الإرهاب على أعلى المستويات»، كان وزير الخارجية المقال تيلرسون فى موقف أقل وضوحًا ومرتبكًا بعض الشىء، نائيًا بنفسه بعيدًا عن مهمته التى يجب أن تتفق منطقيًا مع سياسة الرئيس الأمريكى.. بل وفى زيارته الأولى للمنطقة فى أكتوبر ٢٠١٧ فاجأ الجميع بتوقيعه اتفاقية ثنائية لمكافحة الإرهاب مع الدوحة، عندها بدت الحلول الجذرية للمشكلة بالنسبة للدول الأربع أشبه بالمعدومة، خاصة أن الاتفاقية الموقعة لا تمس رعاية قطر لتنظيم الإخوان الإرهابى، حيث كانت قياداته تقيم على مسافة أمتار من مكان توقيع الاتفاقية، التى عاد بها تيلرسون إلى واشنطن متعهدًا بقدرته على حل الأزمة مستقبلًا، ليضمن على الأقل صمتًا مؤقتًا من البيت الأبيض.
حقيقة الأمر كان المشهد يبدو أكبر مما يحاول تيلرسون تمريره، وأكبر من قدرات الرجل شخصيًا حتى وهو يتسلح بمنصب الخارجية.. فما جرى بين أمير قطر و«دارين وودز» رجل تيلرسون فى «إكسون موبيل»، كان هو الوحيد - ربما فى العالم - الذى يمكنه فهمه وتثمينه.. فقد علم وزير الخارجية الأمريكى أن قطر بصدد مجابهة القطيعة العربية وضربها فى مكانتها الاقتصادية، بالإعلان عن إنشاء أكبر شركة لإنتاج الغاز الطبيعى المسال فى العالم بعد أن تقوم بإتمام اندماج شركتى «قطر للبترول» و«راس غاز»، وأخطر تيلرسون بخطوات هذا الاندماج والمكان الإيرانى المحجوز داخله، من خلال ضمان الاستحواذ على حصة معتبرة من إنتاج «الغاز الإيرانى»، لتحقيق منفعة متبادلة للطرفين، حيث سيصبح المكون العملاق الجديد، هو رقم ١ فى سوق الغاز العالمى. فضلًا عن ضمانة ألا تخرج طهران إلى شراكات غازية مستقبلية مع أى من الكيانات المنافسة.
وبالفعل لاحقًا فى يناير ٢٠١٨ تم الإعلان رسميًا بمعرفة «قطر للبترول»، وهى الشركة الأم فى الدوحة، عن ولادة أكبر شركة لإنتاج الغاز الطبيعى المسال فى العالم وهى «قطر غاز»، بعد إكمال اندماج شركتى «قطر للبترول» و«راس غاز».. وذكر حينها الرئيس التنفيذى لـ«قطر للبترول» سعد شريدة الكعبى، خلال مؤتمر صحفى أن: «الاندماج سيوفر للشركة مليارى ريال (٥٥٠ مليون دولار) سنويًا من تكاليف التشغيل فقط، وستتولى الشركة الجديدة إدارة المشاريع والمنشآت المشغلة من قبل الشركتين». وتقوم شركة «قطر غاز» بتشغيل ١٤ خطًا لإنتاج الغاز الطبيعى المسال، بإجمالى قدرة إنتاجية (٧٧مليون طن) سنويًا، ما يضعها فى صدارة منتجى الغاز الطبيعى المسال فى العالم. فى الوقت الذى تُعد «راس غاز» إحدى كبريات الشركات العالمية فى تكامل عمليات الغاز الطبيعى المسال، بتحويلها إلى مورد إقليمى وإلى عنصر رئيسى فى تركيبة الطاقة العالمية. وقد أوضح الكعبى آنذاك أن «هذه الخطة، تهدف لإنشاء مشغل عالمى فريد من نوعه من حيث الحجم والخدمة، حيث تخطط قطر عبر هذا الاندماج الجديد لزيادة إنتاج الدولة من الغاز الطبيعى المسال، من ٧٧ مليونًا إلى ١٠٠ مليون طن سنويًا، أى بزيادة نسبتها ٣٠٪ مع حلول عام ٢٠٢٤».
هذه الحرب الطاحنة التى يعرفها الجميع اليوم بـ«حرب الغاز» أصبحت معلومة، والعديد من أطرافها انخرط فيها فعليًا بشكل يصل بمنسوب الدهشة إلى مستويات تتقابل مع ما قام به وزير الخارجية المقال لصالح الدوحة وطهران، وتسبب فى الإطاحة به عبر تغريدة أطلقها الرئيس ترامب قاصدًا أن يكون المشهد به القدر الأكبر من الإهانة، ودوى الخروج العاصف من المنصب.. هذه الدهشة ستتعادل وتزول سريعًا فور العلم بأن شركة «راس غاز» لا تعدو كونها شراكة قديمة، تأسست كشركة مساهمة قطرية عام ٢٠٠١، من قبل «قطر للبترول» بنسبة (٧٠٪) وشركة «إكسون موبيل» بنسبة (٣٠٪)، لتكون اعتبارًا من هذا التاريخ، واحدة من أولى شركات الغاز الطبيعى المسال المتكاملة فى العالم.
المساحة قد لا تكفى لسرد قائمة العملاء لدى شركة «راس غاز»، ومن غيرهم من المستهدفين مستقبلًا بعد خروج الكيان العملاق الجديد للنور.. لكن ربما يكفى القول إن «ريكس تيلرسون» غارق حتى أذنيه فى مياه الدوحة منذ ٢٠٠١ وحتى أيام قبيل توليه منصب الخارجية. ويتابع منذ شهور الخطوة العملاقة، التى تخطوها شركته مع قطر، لاعتلاء سوق الغاز المسال العالمى الآن ولسنوات مقبلة.
ومع تغير المعادلات الإقليمية جراء الأحداث الأخيرة، تضمن الدوحة للشراكة الجديدة أن تفتح لها الأعتاب المقدسة فى طهران، وهذا كفيل وحده بأن يسيل لعاب تيلرسون وغيره من الحالمين بالقضم من كعكة الملالى البكر التى ما زالت موضع تنافس حاد بين الشركات الروسية والأوروبية والأمريكية.. وهى ربما تفسر وتشير إلى العديد من المواقف السياسة الأخيرة تجاه طهران، لذلك سيذكر كثيرًا فى واشنطن هذه الأيام كل من العواصم المعنية أو التى لها تماس مع تلك الإقالة الصاخبة، مثل طهران والدوحة وموسكو وأبوظبى والرياض ربما تحت عناوين سياسية حتى يمكن التعاطى معها، بطريقة أسهل من إسنادها إلى سببها الحقيقى الذى سيسجل لها باعتبارها الضربة الأولى فى «حرب الغاز».. فمن غير المتوقع أن تقتصر على شرق المتوسط كما يظن الكثيرون بل إنها ستغزو أركان العالم، وأروقة عالم الأعمال الذى يشتهى المليارات على الدوام.