الأمل فى ذكرى مولد عبدالناصر
يمثل المقال أمام القارئ فى الذكرى المئوية لميلاد الزعيم جمال عبدالناصر، وهناك الكثيرون من المصريين ما زالوا يحتفلون بهذه الذكرى رغم مرور ٤٧ عامًا على وفاته، أى أن الذين عاصروه أصبحوا أقلية صغيرة تتناقص بشدة مع مرور الزمن، ورغم ذلك ما زال حاضرًا فى قلوب وعقول الكثيرين.
ولكن الحقيقة تقول إن صورة جمال عبدالناصر فى قلوب وعقول المصريين قد تكون أقل منها فى قلوب غير المصريين، ويرجع ذلك إلى ما يمكن تلخيصه فى المثل الشائع بأن «لا كرامة لنبى فى وطنه»، وأظن أن ذلك يرجع إلى أن النبى يطالب قومه بالتخلى عن بعض ما اعتادوا عليه، وهم يريدون الاستمرار والتحسين وليس التحسين فقط.
أيًا كان، فإنه رغم هذه الحقيقة، فلا بد أن نتذكر أيضًا أنه فى خلال ٤٧ عامًا منذ وفاة الزعيم، لم يظهر زعيم قاربه فى شعبيته، ولا فى القدرة على مواجهة المواقف الصعبة بما فيها الهزيمة التى واجهها فى يونيو ١٩٦٧، وهو ما يمكن أن يكون موضع السؤال عن السر فى شعبية عبدالناصر وقدرته على الاحتفاظ بهذه الشعبية، رغم مرور السنين من جهة، ورغم تغير القيادات المصرية والعربية والعالمية خلال هذه الفترة، وهو ما يدحض كثيرًا من الأقاويل والتفسيرات التى يمتلئ بها الإعلام، والذى يجعل السؤال مستمرًا وقائمًا.
أظن أن أهم ما تميز به جمال عبدالناصر هو أنه فتح باب الأمل أمام الكثيرين ممن كانوا يشعرون بأن طريقهم إلى تحسين أحوالهم المعيشية مسدود بالاستعمار والإقطاع والاحتكار وغير قابل للفتح، نعم فقد كانوا يواجهون صعوبات كانت تبدو مستحيلة، وفجأة وجدوا الطريق مفتوحًا أمامهم، وأنه يدافع عن حقوقهم بإخلاص، وأن على باب الطريق هناك شخص حريص على استمرار فتحه أمامهم، ولذلك فقد كانوا حريصين على بقائه، اقتناعًا بإخلاصه وبأنه لن يخذلهم، وأن بقاءه على الباب سيظل ضمانًا للوصول إلى الأمل الذى طالما تطلعوا إليه، ولكنهم لم يجدوا الطريق إليه. هنا يبدو العنصر الثانى من قدرات الزعيم، والذى ندر من شابهه فيه، وهو النقاء الذى يبعده عن الفساد، فهو احتفظ بأسلوب حياته وحياة أبنائه كما كان تقريبًا قبل الوصول إلى السلطة، وهو ما دعا البعض إلى التعبير عنه بأنه كان «نقيًا إلى درجة مزعجة»، وهو وصف لم يوصف به أحد قبله، رغم أنه قد ينطبق على غيره، ولكن رجال المخابرات الأمريكية قالوا إنهم لم يجدوا له نقطة ضعف لينفذوا إليه منها، رغم أنى أعتقد أن نقطة ضعفه الرئيسية هى زملاؤه، فلقد كان الرئيس يحترم ويقدر من كانوا معه ومن شاركوه فى ثورة يوليو، ولذا فقد عاملهم باعتبارهم شركاء فى الثورة وليسوا مجرد زملاء، وهذا أعطاهم ميزة لم يكن كثيرون منهم قادرين على تقدير متطلباتها، ومن هنا تسلل البعض إلى السلطة وأساءوا استخدامها، وحتى بعد محاسبتهم ظلت آثارهم عالقة بثياب الثورة التى تمثل فى رأيى الثورة الوحيدة فى تاريخ مصر بما أحدثته من تغيير ثورى فى المجتمع المصرى، بأن نقلت غالبية الشعب المصرى من طبقة الأُجَراء إلى طبقة المُلاك، وهو أيضًا ما لم يقدره بعض المنتفعين بالثورة، وكان ضروريًا أن يبقى الزعيم لضبط إيقاع الثورة. لا شك أن قدرة الزعيم على مواجهة اللحظات الصعبة تشكل إحدى الصفات المهمة التى تميز بها جمال عبدالناصر، وإذا كانت مواجهة آثار الهزيمة فى عام ١٩٦٧ أخطر هذه اللحظات، فقد كانت مواجهة العدوان الثلاثى عام ١٩٥٦ لا تقل خطورة، ولا يدرك أحد هذه القيمة إلا من عاش تلك الفترة، وكان يدرك حقائق أمورها وقوتها، وهنا قد أتذكر ما ينسبه البعض للولايات المتحدة من فضل فى هذا الموقف، وأقول لا أحد ينكر عليهم فضلهم، ولكنه يأتى متأخرًا كثيرًا عن أفضال أخرى على رأسها موقف الشعب المصرى بقيادة زعيمه، وموقف الاتحاد السوفييتى، والموقف الدولى الذى ساهم جمال عبدالناصر فى تشكيله. بهذه المناسبة فإن تناول أى قرار أو موقف وكيفية التصرف فيه، لا يكون بعد غياب الفاعلين فيه، فالبيئة السائدة فى أى موقف من أهم عناصر الموقف، وبالتالى فإن القول بأن الوقت ما زال مبكرًا فى الحكم على فترة جمال عبدالناصر غير صحيح من وجهة نظرى، فلا أظن أن أحدًا من الأجيال القادمة سيكون قادرًا على تقدير ما واجهه الزعيم لتحقيق أمله وأمل الشعب المصرى، وآمال الأمة العربية وباقى العالم من ورائها.