رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ليس دفاعًا عن عماد جاد.. بل دفاعًا عنّا


الدكتور عماد جاد كتب مؤخرًا مجموعة من المقالات، تناول فى بعضها قضيتين، رأى من وجهة نظره أنهما تلزمهما نبرة عالية فى توجيه النقد للقائمين على هاتين القضيتين، وعلى جانب آخر باعتباره تعرّض لذلك فى مقالات رأى ينشرها بجريدة يومية، أراد لفت الانتباه لمن يهمه الأمر، إلى أهمية ما يطرحه وأنه يلزمه تدخل ما. القضيتان باختصار، الأولى: تتناول تكرار الاعتداء على أماكن الصلاة للمسيحيين، التى يشوبها ملابسات وتعقيدات، لها علاقة بطبيعة المبانى التى تُستخدم ككنيسة بصورة مؤقتة، لحين توفيق أوضاعها القانونية. والثانية: تتعلق بمشروع القانون المقدم بالبرلمان لتجريم «الإلحاد»، ووضع آلية ملاحقة وعقوبات قانونية، على مرتكب هذا الفعل.
قضيتان، رأى دكتور عماد جاد، النائب بالبرلمان والكاتب والباحث، وقبل ذلك المشتغل بالعمل السياسى، أنهما مُهمتان، يحتاج المجتمع والنخبة التى يقف وسطها، أن يديروا نقاشًا حولها. ولا أظن أن أحدًا يمكنه الطعن أو التغافل عن تلك الأهمية، بل من الواجب تعظيم تلك الأهمية واستدعاء أدوات أخرى للتفاعل معهما.
لكن المشهد، وللأسف البالغ، اتخذ منحى مغايرًا تمامًا، حيث بدا وكأن حديث دكتور عماد قد أثار حفيظة البعض هنا أو هناك، فإذ بنا أمام سطور مقتضبة على صفحته الشخصية، يُعلن فيها إخطاره من قبل الجريدة التى يكتب فيها مقالًا يوميًا، بالتوقف عن نشر مقالاته بها!.
بعد ساعات، بُث على إحدى الفضائيات برنامج تليفزيونى تسابق فيه المذيع والضيف فى تناول الموضوع بأكثر الأساليب والألفاظ المنفّرة والمتجاوزة، بحق ما طرحه دكتور عماد، وبحقه هو شخصيًا. فى رغبة بائسة لتنفيذ اغتيال معنوى بحق الرجل، لم يُفلحوا فيه ولم يُثر انتباه الكثيرين لرداءة التناول أولًا، ولاستهلاك وتهافت تلك الآلية، التى أصبحت تُنفر المشاهدين وتدفع الرأى العام للانصراف تدريجيًا، عن متابعة مثل هذا العبث. وحقيقة، من يقف على ردة الاستقبال لدى المشاهدين لمثل هذا، سيجد كيف يمثل إساءة بالغة لنا كمجتمع، قبل أن تكون للدولة أو الإعلام أو حتى للقضايا والأشخاص التى يتم تناولها.
بالعودة إلى ما أثاره عماد جاد، ففى البعض منه قد يكون غضبًا من جهاز الأمن الوطنى، خصوصًا وقد أورد انتقادًا لأدوارهم فيما يخص أحداث أطفيح الأخيرة، وهو غضب يمكن تفهم مشروعيته تمامًا، كما يجب استيعاب خلفيات النقد الذى نقل للجهاز صراحة ما يدور فى الشارع المسيحى.
مُلابسات أحداث تلك الواقعة بعينها نصبت فخًا محكمًا لكل الأطراف، عندما سربت شائعة أن الأمن يعلم مسبقًا بالأحداث، وأنه يباركها أو على الأقل سيغض الطرف عنها حتى تصل لمبتغاها. بالطبع لسنا هنا فى معرض تفنيد تفصيلات ما جرى على الأرض، لأن الأهم وما كان ينبغى على الأمن الوطنى تفهمه، أن صوت عماد جاد فى هذا الشأن يأتى من تراكم وتكرار بائس لهذا الشكل من الأحداث. وبالمناسبة أثلج صدرى كثيرًا أننى علمت بتلك الأحداث من صفحات التواصل الاجتماعى بعد ساعات من حدوثها، حيث وجدت ثورة غضب عارمة على مئات الصفحات لمسلمين هالهم ما يجرى، ولم يجمعوا سوى على ضرورة حضور يد الدولة القوية للضرب بقوة من أجل إيقاف تكرار هذا العبث. شعرت حينها بأننا على الأقل مازلنا بخير وإن أصابتنا أمراض يتلزم علاجها ولا يجوز المرور على آلامها.
لذلك يجوز الاختلاف كلية مع ما طرحه عماد جاد، من قبل جهاز الأمن، أو أى ممن يرون الصورة على أى وجهة أخرى. لكن فى كل الأحوال وهو الأهم يجب الاهتمام بالإنصات إليه، بل يقينًا يجب الحرص على وجود هذا الصوت، ليس فقط لأن عماد جاد يتحدث من داخل مربع وطنى صلب، بل لأن معارضته لأمور بعينها، لا ينبغى أن تخصم من أدوار وقناعات عديدة أطلقها وعبر عنها بصوت عال لصالح «الدولة المصرية».
وكما قصدت فى عنوان المقال، لا أريد استهلاك المساحة ولا الفكرة فى الدفاع عن عماد جاد، بقدر تأكيد أن القضايا السياسية والاجتماعية الحساسة، يجب التعامل معها بما يلزمها من ردات فعل هادئ، يماثلها فى تقبل وجهات النظر المختلفة، حتى وإن وصلت لحد الاتهام الذى يجوز تفنيده فى جلسات حوار مغلقة ومعمقة، فسعة الصدر هنا تُفكك الاحتقان، وتستفيد من الرؤى المختلفة لصالح القضية والوطن.
مرة أخرى، جهاز الأمن الوطنى ينظر إليه كونه الكيان المؤهل للتعاطى، وإحداث نقلة نوعية فى طيات حالة تثير غضب غالبية المسلمين قبل المسيحيين. وهو كيان أكبر من أن يغضب أو هكذا يجب عليه، تمامًا كضرورة تواصله مع كل أركان المشهد بالشرح والتحليل والمبادرة باستخدام كل وسائل استنباط حلول فارقة، تقضى على جذور أمراض اجتماعية خطيرة.
والجهاز بطبيعة دوره لديه مهمة أشد خطورة، وهى الحفاظ على درجة حرارة الشارع فى مستواها الآمن، وسعة الصدر وانفتاح المسارات وحضور كل الأصوات، هى الآلية التى يجب أن يعتمدها. بل فى بعض الأحوال عليه أن يفرضها بالقوة؛ ويلزم الجميع باحترامها وتقدير أهميتها. لأنه هنا يشكل للوطن الدرع الواقية من مزالق الألم المكتوم الذى سيبحث منطقيًا عما يمكن أن يفرغ فيه وجعه وغضبه، وإحباط تأخر الشفاء.
الدكتور عماد جاد السياسى والبرلمانى الذى يخرج ليحذر من مغبة إصدار قانون يجرم الإلحاد، منبهًا لخطورة تداعياته الداخلية والخارجية، هو صوت وطنى تحتاجه الساحة، بأكثر مما هو يحتاجها. وكما نعده نموذجًا محترمًا يجوز القياس عليه، فليس من الأمان فى شىء لو أننا سجنّا أنفسنا بأيدينا فى قيود الرأى الواحد، والصوت الذى لا يعلو عليه صوت. أو أن نسقط طواعية فى شباك الفكرة الأولى، لنترك الساحة فارغة وموحشة، حتى وإن صدر عنها ضجيج زائف يوحى بأن هناك أناسًا يسعون وأحاديث تدور.