رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مهزلة أنصاف الحلول فى قضية الخطاب الدينى


نتحدث كثيرًا عن الخطاب الدينى، نطالب أحيانا بتطويره وحينا بتجديده، وحينا بتصويبه، وحينا آخر بالثورة عليه، كل ذلك حسن، ولكننا ونحن فى طريقنا للتعامل مع الخطاب الدينى الحالى يجب أن نؤمن بأن أى خطاب دينى هو مفردة من مفردات الخطاب الحضارى، وحيثما ارتفع خطابنا الحضارى واتجه إلى إعمال العقل والإبداع، ارتفع معه شأن الخطاب الدينى واتجه إلى العقل وانتحى بعيدا عن النقل، ومع ذلك فإن الخطاب الدينى يحتاج إلى عناية خاصة، نظرا للتشويه الذى حدث للإسلام عبر سنوات طويلة، حيث تغلبت مدارس فقهية من خارج مصر ونقلت فقهها إلينا مع الاختلاف فى البيئة والحضارة، لذلك وبالتدريج أصبحت مدرسة النقل هى المسيطرة على الخطاب الدينى، وابتعدت مدرسة العقل عن التأثير، وترتب على ذلك أننا ومنذ زمن ونحن لا نعيش مع فهمنا نحن للدين، ولكن مع فهم القدماء للدين.

لذلك كانت المفارقة التى جعلتنا نعيش فى القرن الواحد والعشرين، بعقلية من يعيش فى القرون السابع والثامن والتاسع! وكأن الإسلام دين محلى مرتبط بحقبة زمنية محددة ومجتمع بعينه، وهذه أكبر إساءة لعالمية الإسلام وعدم محدوديته، ومن منطلق أن الله أرسل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم (ليكون للعالمين نذيرا) وكذا ليكون (رحمة للعالمين) لذلك فقد اقتضت حكمة الله تعالى أن تتفاعل عقول الناس «النسبية» على مر العصور وعلى اختلاف الأمكنة والأزمنة مع نصوص الدين المطلقة، وسيترتب على ذلك بلا ريب اختلاف الأفهام من جيل إلى جيل، ومن بيئة إلى بيئة، فإذا ربطنا أنفسنا بفهم جيل بعينه نكون قد نزعنا من الإسلام خاصية العالمية والشمولية، وقد أنتج لنا تجميد الدين عند زمن القدماء جماعات عاشت بعقول أزمنة قديمة فكان أن تعسفت فى فهم النصوص، واعتبرت أن ما هى عليه هو الحق المطلق! فرفعت سيوفها فى وجوه مجتمعاتها وأطلقت دعاوى التكفير ضد الجميع.

بل أنشبت مخالبها فى وجوه من يخالفها فى الفهم، فكان القتل وسفك الدماء وتخريب البلاد والسعى للحكم باسم الدين على جثث العباد! ولأن شعارات الدين تخلب العقول وتسلب المشاعر، لذلك وقع تحت أسر تلك الجماعات عددٌ لا يستهان به من شبابنا، وتعاطفت معهم شرائح من الناس، يظنون أن ما عليه تلك الجماعات هو الدين المطلق، وأن ما سواه هو الباطل المطلق، وأن صراعهم هو صراع الحق ضد الباطل، وجهادهم هو الجهاد من أجل أن تكون كلمة الله هى العليا وكلمة الشيطان هى السفلى!! وكان هذا كله داعيا لنا أن نسعى إلى تصحيح المفاهيم ومواجهة هذا الشذوذ الذى أساء للإسلام، أيما إساءة ولذلك فإننا ونحن فى طريقنا لتصحيح المفاهيم الشاذة يجب أن ندرك أن هناك فارقا بين الإسلام وبين تراث المسلمين، الإسلام مقدس بقرآنه وسنته الصحيحة لا شك فى ذلك، ولكن التراث هو ذلك الذى وصلت إليه عقول بعض المسلمين الأوائل فى فهمها للقرآن والسنة النبوية، سواء كانت عملية أو قولية، فإذا فهم القدماء تلك النصوص، وفق ثقافاتهم وخبراتهم وزمنهم وواقعهم الذى يعيشون فيه... فليس معنى هذا أن باقى المسلمين على مدار العصور مجبرون على أن ينتظموا فى نفس هذا الفهم، وإلا لكان معنى هذا أن الله لم يخلق إلا عقلا واحدا ثم استنسخ منه نسخا بقدر عدد البشر إلى أن تقوم الساعة! ولذلك فإن التراث قد يلقى تقديرا من المسلمين ومن غير المسلمين بحسب أنه جهد بشرى إبداعى، ولكنه لا ينبغى أبدا أن يلقى تقديسا أو تنزيها، هو مجرد صورة من صور ثقافات الأزمنة التى أنتجت هذا التراث، به نستطيع أن نعرف طريقة تفكير المسلمين القدامى وطرق استدلالاتهم، ومدى تأثير ثقافات الحضارات الأخرى فيهم، وكيف نظروا بثقافاتهم هذه للقرآن والنبى، صلى الله عليه وسلم، وهل أثرت فيهم ثقافة العرب وهم يكتبون سيرة النبى، صلى الله عليه وسلم، أم أنهم تأثروا بثقافات أخرى ليست من بيئاتهم، فالإنسان فى كل العصور لم يكن بمعزل عن الثقافات الأخرى المجاورة له أو البعيدة عنه. هذا تراث ينبغى أن نستخدمه كمفتاح من مفاتيح فهم ما حدث من قبل لا أن يكون منهجا نسير عليه فى حاضرنا ومستقبلنا، نستطيع به أن نعرف كيف فهم القدماء الدين، ولكن فهمهم لا يمكن أن يكون هو فهمنا، وإذ نقرأ هذا التراث رغم غرابة بعضه وشذوذه إلا أننا لا يمكن أن نحمل الدين عليه ونقول للناس: إن الإسلام يسمح بكذا أو كذا، لأن ما ورد فيه هو ترجمة لأفكار ناس، وسلوك ناس، وأخلاق ناس، وتاريخ ناس، فالدين لا يُحمل على الناس.

ولكن الناس يُحملون على الدين. لا أظن أن أحدا يختلف معى عما سردته آنفا، ولا سبيل لإنزال هذه المفاهيم من دنيا الأحلام إلى أرض الواقع إلا أن يكون هناك كيان إنسانى، كمجلس قومى مثلا، يضم عقولا تسعى بفكرها وعلومها وأفهامها إلى مواجهة جماعات التطرف والتكفير والإرهاب، فنحن والحق نقول أمام معركة ليست هينة، وقد مضى زمن التكاسل والدعة والاسترخاء، وجاء زمن المواجهة التى لا تعرف أنصاف الحلول.

وسيكون طريقنا محفوفا بالصعوبات لا شك فى ذلك، فإن لأنصار التقليد سطوة، ولكن وسائلنا ستيسر لنا الطريق، فنحن نؤمن بوسائل نرانا قد تنكبنا السبيل عندما أهدرناها، فمن العار أن يظل فى مصر نسبة ضخمة من الأميين الذين لا يعرفون القراءة والكتابة فى عصر أصبحت الأمية فيه هى أمية العلوم التكنولوجية! ونؤمن بأن التعليم المصرى انحدر إلى هوة سحيقة، وإذا كانت أى أمة لا يمكن أن تقوم لها قائمة إلا بالتعليم الصحيح لذلك يجب أن نسارع إلى صنع نهضة تعليمية فى المناهج والطرق والأساليب، أما الفنون فهى الوسيلة الكبرى فى مواجهة التطرف، وكم للمسرح من دور فارق إذا نهض من كبوته، وكذلك السينما والتليفزيون وجميع الوسائل الإعلامية والتعليمية، وإذ نسير فى طريقنا نكتشف أن مؤسسات وزارة الثقافة يجب تفعيلها حتى تؤتى ثمارها، فلا جدال فى أهمية قصور الثقافة والمقاهى الثقافية والمكتبات، أما دور الأسرة فيجب أن نقوم بتقويمه كى تشارك الأسرة فى مواجهة الخطاب الدينى المتطرف، ولا يكون ذلك إلا بإنشاء مراكز الإرشاد الأسرى، بحيث تضم متخصصين فى التربية وعلم النفس، فينطلق هؤلاء المتخصصون إلى الأسر المصرية فى الريف والحضر للقيام بأدوار توعوية، وليكن شعار الخطاب الدينى الجديد هو «إسلام الإنسانية» فقط نحتاج إلى الهمة والعزيمة والإصرار.