رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

متى تُغلَق أبواب العنف والإرهاب؟


كتبت فى المقال السابق عن مظاهر العنف والإرهاب الذى يكاد لا تنجو منه دولة أو إقليم على وجه الأرض، ولكن شتان الفرق بين الانحراف السلوكى والوقوع تحت العادات السيئة ومصاحبة المنحرفين والمدمنين والفاشلين، وهذا منوط بالأنظمة الحاكمة والقضاء، ولكن قبل كل هؤلاء نقول غياب الأسرة السوية والمدرسة التربوية ودور العبادة والأندية سواء غيابًا ماديًا بعدم وجودها، أو لندرتها أو بالتقصير فى أداء واجبها.



أما ما يعنينا بالدرجة الأولى فهو الإرهاب الذى يقوم على تأسيس دينى أو تقصير من جانب المؤسسات الدينية التى تصمت أمام الإرهاب والعنف بكل درجاتهما، بل هناك من يحاول أن يجد من بعض النصوص الدينية مبررًا كافيًا حتى قرأنا وتابعنا على وسائل التواصل اعتداء على الوالدين، وحتى الأبناء، بالقتل بتهمة البعد عن صحيح العبادة والدين، وكأنى بهم يقيمون منصة الديان، ويقضون وينفذون الأحكام وكأنهم آلهة. ولقد ذكرت فى المقال السابق أن أتعرض اليوم لموقف المسيحية من العنف. وعندما نتحدث عن وجهة نظر فى هذا الموضوع أو غيره، فلا نقيم الدليل على أقوال أفراد أو جماعات أو حتى مؤسسات روحية أو تعليمية، بل نقيم أدلتنا على النصوص الكتابية من الإنجيل. وأبدأها بأقوال السيد المسيح فى عظته على الجبل لأعداد غفيرة ثم نقلت للكافة عبر العصور ومنها: «قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لَا تَقْتُلْ، وَمَنْ قَتَلَ يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَغْضَبُ عَلَى أَخِيهِ بَاطِلًا يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ، وَمَنْ قَالَ لِأَخِيهِ: رَقَا، يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْمَجْمَعِ، وَمَنْ قَالَ: يا أَحْمَقُ، يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ نَارِ جَهَنَّمَ».. «قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لَا تَزْنِ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى امْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا، فَقَدْ زَنَى بِهَا فِى قلبه».

واضح من النصوص وضوح الشمس أن المسيح لم يواجه عنفًا بعنف فى حياته على الأرض حتى عندما لطمه عبد رئيس الكهنة. وهنا ثار أحد تلاميذه وضرب بسيفه أذن ذلك العبد فقطعها، لم يقبل المسيح هذا التصرف، بل انتهر تلميذه وأمسك الأذن المقطوعة وأعادها فى مكانها.. وهنا يأتى السؤال: كيف الرد على من يقرأ كلمات المسيح فى مواضع مختلفة عن لزوم حمل السيوف؟.. فنقرأ ما سجله لوقا ٢٢ : ٣٥- ٣٦..“ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: «حِينَ أَرْسَلْتُكُمْ بِلَا كِيسٍ وَلَا مِزْوَدٍ وَلَا أَحْذِيَةٍ، هَلْ أَعْوَزَكُمْ شَىءٌ؟». فَقَالُوا: «لَا». فَقَالَ لَهُمْ: «لَكِنِ الْآنَ، مَنْ لَهُ كِيسٌ فَلْيَأْخُذْهُ وَمِزْوَدٌ كَذَلِكَ. وَمَنْ لَيْسَ لَهُ فَلْيَبِع ْثَوْبَهُ وَيَشْتَر سيفا».. السيف ذو اهتمام كبير هنا للدرجة التى تفوق الثوب الذى يرتديه الإنسان فى المناسبات، فهو يُبين لزوم السيف لمواجهة المخاطر التى يتعرض لها المسافر من الوحوش الضارية.

كما سجل متى فى الإصحاح العاشر والآيتين ٣٤ - ٣٥ «لَا تَظُنُّوا أَنِّى جِئْتُ لِأُلْقِى سَلَامًا عَلَى الْأَرْضِ. مَا جِئْتُ لِأُلْقى سَلَامًا بَلْ سَيْفًا. فَإِنِّى جِئْتُ لِأُفَرِّقَ الْإِنْسَانَ ضِدَّ أَبِيهِ، وَالِابْنَةَ ضِدَّ أُمِّهَا، وَالْكَنَّةَ ضِدَّ حَمَاتِهَا. وَأَعْدَاءُ الْإِنْسَانِ أَهْلُ بَيْتِه»ِ.. وهنا يتبادر الى ذهن القارئ أن المسيح يدعو إلى القتال، وأنه غير كل ما نادى به من مُثُل لا نظير لها، ولكن كان المسيح يكلمهم عما سيحدث لهم من الذين حولهم، وأنهم سيكونون مرفوضين من ذويهم، لأنهم آمنوا برسالته وأطاعوا دعوته، فحدث انقسام فى داخل الأسرة الواحدة مما جعل بعضاً من أفراد الأسرة غير مقبول من ذويهم ومطرودين من عائلاتهم.

أما اذا أخرجت بعض من كلمات السيد المسيح من سياقها وقيلت منفردة تخرج عن مرامها ومقاصدها. ونذكر بعضا مما يمكن تفسيره على غير ما علم المسيح به وعاشه فكانت حياته متفقة مع تعاليمه. لنسمعه قائلاً «اَلسَّارِقُ لَا يَأْتِى إِلَّا لِيَسْرِقَ وَيَذْبَحَ وَيُهْلِكَ، وَأَمَّا أَنَا فَقَدْ أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ وَلِيَكُونَ لَهُمْ أَفْضَلُ»، فهو يشير إلى الهدف من رسالته إننا لحياة وليس لموت ولحياة أفضل من الحياة التى يحيونها فى خوف ورعب وتهديد وعنف.

والسؤال الذى قد يراود البعض هو هل تناقض تعاليم المسيح مع بعضها حين علمهم قائلا: «سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبْغِضُ عَدُوَّكَ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لَاعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لِأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ، لِكَى تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ الَّذِى فِى السَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى الْأَشْرَارِ وَالصَّالِحِينَ، وَيُمْطِرُ عَلَى الْأَبْرَارِ وَالظَّالِمِينَ. لِأَنَّهُ إِنْ أَحْبَبْتُمُ الَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ، فَأَى أَجْرٍ لَكُمْ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضًا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ؟ وَإِنْ سَلَّمْتُمْ عَلَى إِخْوَتِكُمْ فَقَطْ، فَأَىَ فَضْلٍ تَصْنَعُونَ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضًا يَفْعَلُونَ هَكَذَا؟ فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِى فِى السَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ». متى ٥ : ٤٣- ٤٨.

كانت كلمات المسيح وتحذيراته مرتبطة بتعاليمه وحياته، وفهمها تلاميذه وكذلك جميع الأجيال التى تعلمت منه. وهنا يأتى السؤال هل كان للأسلحة معنى آخر غير ما تعودنا عليه، والإجابة: نعم، فنقرأ على سبيل المثال لا الحصر فى سفر الرؤيا هذه الكلمات «.. فَتُبْ وَإِلَّا فَإِنِّى آتِيكَ سَرِيعًا وَأُحَارِبُهُمْ بِسَيْفِ فَمِى».. رُؤْيَا يُوحَنَّا ٢ : ٦١..فالسيف هنا لم يكن سيف القتل والذبح، بل كانت الكلمة المغيرة للسلوك وحتى النوايا، وكان المسيح يذكر تلاميذه والمؤمنين برسالته أنهم سيواجهون معارك وانقسامات فى الأسرة الواحدة، بين من قبل تعاليم المسيح وبين المعاندين والرافضين ليلاقوا ضيقًا وحربًا حتى فى داخل الأسرة الواحدة، فمنها من عرف التعليم والحياة العالية والسامية، ومن ذات الأسرة التى قاومت بعضاً منها لكونها خرجت عن مسار العائلة وتقاليدها وعاداتها. أما وأننا نقرأ التاريخ حول أطول معركة فى أوروبا بلغت ثلاثين عامًا من الدماء التى جرت أنهارًا وباسم الدين، فهذا موضوع المقال المقبل.