رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هل نسمح للمستقبل بالدخول؟


لاشك أن كل أمة تعتمد حياتها، بل تتوقف على الأعمال الصالحة والمفيدة التى تُؤدى بها الواجبات وتتحقق بها غايات الوطن، ولا يتأتى ذلك إلا إذا تصدى لتلك المهام بشر تؤهلهم الأرض والطبيعة والمناخ والبيئة للقيام بها، وتاريخ الأمم المتقدمة يشهد بأن فى ماضيها من أعد لها فرسانًا امتلكوا جوهر المؤهلات الصالحة، فانبروا بإخلاص وروية وحكمة وانتماء حقيقى لصنع الحاضر وتشكيل ملامح المستقبل وصياغة أبجديات التقدم، التى هى فى النهاية نتاج طبيعى وحصاد مأمول لغرسهم الطيب.



وإن لم يتوفر لأى أمة تلك النوعية من فرسان الريادة، اضطرت إلى استقدام عناصر من غير بنيها، وهم إن تولوا ومارسوا القيام بتلك الأدوار، ومهما اجتهدوا فى مواقعهم فإنما يجتهدون للنجاح فى الوظيفة وأداء الواجب نحوها فقط، وفى أغلب الأحوال لا يكون أداء الواجب على هذا النحو فاعلًا نحو الوطن والأمة، لأنه أداء قد يفتقد التناغم مع المنظومة العامة والرؤية الأشمل والأهداف ذات الصيغة والخصوصية الوطنية.

ويبقى السؤال: هل كان لأجنبى مهما أعد من دراسات، ومُنح من صلاحيات، وتوافرت له أعلى درجات الخبرة، والعلم، والجاهزية العملية، أن يقدم لبلادنا إنجازًا واحدًا على قدر روعة إنجازات طلعت حرب ــ على سبيل المثال ــ بتلك الحمية، والتواصل الإنسانى، والغيرة الوطنية، والفهم العميق للتركيبة البشرية لمواطنيه وتاريخهم وتراثهم الفلكلورى والروحى التى اتسمت بها تلك الإنجازات التاريخية العملاقة، وإن كان امتد لبعضها للأسف معاول الهدم والإفساد والإهمال الإدارى فى عصور الانفتاح قليل الأدب؟

والأمثلة فى هذا الصدد لا تُعد ولا تُحصى لرواد وأصحاب أدوار رفيعة تاريخية كانت ولا تزال مؤثرة فى جميع مناحى العلم والمعرفة والثقافة والفنون وفى عالم السياسة، وفى كل ساحات العطاء الوطنية العسكرية والأمنية والقانونية دفاعًا عن حقوق المواطن، ولعل نجاح مؤسس نهضة مصر الحديثة «محمد على» كحاكم خير دليل على ذلك، ورغم أنه لم يكن مصرياً «وقناعته بضرورة الاستفادة والتفاعل مع أسباب التقدم فى بلاد الغرب المتمدينة عبر إرسال البعثات والاستفادة بالخبرات الأجنبية» فإن الرجل كان مؤمنًا بقدرات المواطن المصرى، وعليه فقد قام عند تشكيل المؤسسات الرئيسة لبناء الدولة بالاعتماد الكامل على أولاد البلد، فاستطاع بناء مؤسسات وطنية قوية منتمية، ولعل بناء مؤسسة عسكرية تعتمد على فكرة المواطنة الكاملة وتأهيل العنصر الوطنى ما يؤكد نجاح ذلك التوجه.

وإذا كنا قد استشعرنا فى الحقب الأخيرة مدى التراجع فى أعداد هؤلاء الرجال المؤهلين للبناء، فإننى أرى أن ذلك قد يعود لعدد من الأسباب لعل من أهمها:

■ إنه فى أحيان كثيرة تخدعنا الصور المزيفة لبعض أصحاب الأدوار المتواضعة التى تجيد فنون الإعلام والإعلان عن نفسها والتى باتت تصرفنا عن الأصيل من النماذج الصالحة الصادقة.

■ غياب التعامل العلمى والمنهجى، الخالص لوجه الله والوطن، مع هؤلاء الذين اختصهم المولى بسمات الرؤية الأشمل التى تؤهلهم لتقدم الصفوف.

■ لا يوجد نظام أو آلية لإعداد وفرز، ثم رعاية أصحاب المواهب والملكات المتفردة وتقديمها للمجتمع بحفاوة ومساندة باعتماد توجه إدارى معاصر لاستثمار أمثل للعنصر البشرى باهتمام هو الأولى بأمم تسعى للنهوض بعد ثورات.

فى واقع الحال إن الخبرات الإيجابية لا تنتقل ولا تعمم على أرض الواقع للأسف، فما نراه فى مؤسساتنا الحكومية يشير إلى انتقال الخبرات الفلكلورية السيئة فقط، فهى التى تتناقلها وتتوارثها الأجيال باعتبارها ـ للأسف ـ خلاصة حكمة عمل السنين فى دولاب الحكومة العتيد، مثل ترديد أيقوناتها الخالدة «اشتغل كتير تغلط كتير تتحول للتحقيق» و«إحنا فى النهاية بنفذ سياسة» و«اللايحة دينى ومذهبى»، وغيرها الكثير من المفاهيم السلبية تتناقلها الأجيال عبر أضابير ودوسيهات جهنمية نراها وكأنه قد حفر على أغلفتها وصايا تاريخية لجموع الشغيلة.

لابد من تنمية الوعى المجتمعى عبر تفعيل دور الإبداع والمبدعين فى صناعة التقدم وصياغة مسارات جديدة للانفلات من أسر القوالب الجامدة التى تجاوزتها كل المجتمعات التى تأمل أن يكون لها مكان لائق على خارطة المستقبل.

إن النظر إلى المستقبل لا يتأتى بمنأى عن تأمل الحاضر، وعليه فإن الرؤية المستقبلية لتطوير الإدارة وتحديثها، يجب أن تتفاعل وتتشابك مع المتغيرات الآنية الحادثة على المستوى المحلى والإقليمى والعالمى بإيجابية.. والفساد الإدارى ليس ظاهرة جديدة ولا يمكن الادعاء بأنه ظاهرة محلية، فالفساد موجود عبر التاريخ الإنسانى وفى كل أنحاء الدنيا، ولكن مواجهة الفساد الإدارى تتأتى عبر تحديث التشريعات، وتفعيل النظم الأكثر شفافية، وأن يتقدم المبدعون الصفوف، والعمل على تحديث المناخ الصالح لتطبيق نظم إدارية متطورة، والأهم هو وجود الإرادة السياسية لمجابهة طواغيت الفساد، وهو ما نحمد المولى الكريم أن بتنا نراه بوضوح فى الفترة الأخيرة.

لابد من تجاوز الفكرة التقليدية التى تركز على أن مشاكلنا تكمن فى ضعف الموارد المالية، وزيادة السكان.. وعليه لابد من السعى إلى وجود إطار تنظيمى لترتيب منطلقاتنا القومية فى أنساق حركية متسارعة.. عزيزى المواطن، اعرف قدر ذاتك فأنت لست بما تنتجه أو بكم ما تكنزه ولا بمدى عراقة أصلك ونسبك بقدر ما أنت فى النهاية مخلوق أوجده الله بتفرد وتميز وعبقرية صياغة، فقط عليك فك مفردات الشفرة.. صدق «جراهام جرين» حين قال: «حتماً، ستأتى لحظة من الزمان ينفتح فيها الباب ليسمح للمستقبل بالدخول»، فهل نحن يا سادة جاهزون للاقتراب من فتح الأبواب لمستقبل واعد بإذن الله؟.. الإجابة فى العمل والإنتاج.