رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«ثلاجة الرئيس».. و«ثقافة إياد مدنى»


أليس من العار أن تكون هذه هى ثقافة الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامى «إياد مدنى» الذى تهكم فى «فاصل فاحش» على ما قاله الرئيس عبدالفتاح السيسى للشباب فى مؤتمرهم بشرم الشيخ «من أن ثلاجته ظلت مقتصرة على المياه لمدة 10 سنوات»، وما قاله الرئيس كان رسالة إلى المصريين بأن يتحملوا بتعفف.. ألا يعلم «مدنى» أن القرآن الكريم والسنة المشرؤفة لايعتبران ضيق الحال والفقر عيباً «فالرسول الأكرم كان فقيراً وأغناه الله» ألم يقرأ قول المولى عز وجل «للفقراء الذين أحصروا فى سبيل الله لا يستطيعون ضرباً فى الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافاً وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم.. الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرًا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون»، ألا يعلم الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامى أن هناك قيمة عظيمة اسمها «الإيثار» وتطبيقها «ثقافة شد الحزام على البطون» التى برع فيها المصريون.. ألا يعلم «إياد» أن هناك آباء وأمهات مصريون يحرمون أنفسهم من الأكل والشراب لتعليم ابنائهم.. ألم يخبره أحد بأن هناك أبًا مصريًا أو أمًا مصرية تخرج «اللقيمة» من فمها ليتناولها أبناؤهما وهم راضون رغم الحرمان... واشك أن يعى «أياد مدنى» هذه الثقافة فهو نشأ فى ظل ثقافة «التخمة الريعية»، وليعلم الجميع أن مصر مرت بمراحل أشد مما نمر بها الآن وتنقل لنا صفحات التاريخ نكبات مرت بها مصر وكان تأثير «النيل» فيها كبيراً فإذا جاء الفيضان مرتفعاً عم الرخاء، وإذا جاء منخفضاً عمت الفوضى العارمة والمجاعات التى كانت تضرب مصر من وقت لآخر منذ أن استقر الإنسان المصرى على ضفافه بسبب انخفاض منسوب فيضان النيل، حدث ذلك أيضاً فى ظل «الإخشيديين» الذين حكموا مصر قبل قيام الدولة الفاطمية بها، استمرت المجاعة فى عهدهم لمدة تسع سنوات مما أدى إلى سقوط الدولة الإخشيدية بسبب الاضطرابات الداخلية التى نتجت عن وقوع هذه المجاعة، لتحل محلها دولة «الفاطميين» بعد أن كاتب المصريون الخليفة المعز الفاطمى.
ولما قامت دولتهم عملوا على تخفيف حدة المجاعات المستمرة من خلال عدة إجراءات منها حملهم للغلال معهم من المغرب، كما كانوا يكتمون منسوب مياه الفيضان إذا انخفض حتى لا ترتفع الأسعار ويختفى الطعام، كان الخليفة الفاطمى «الحاكم» الذى حكم مصر فى الفترة من 1003 إلى 1009 م مهتماً بمواجهة انخفاض فيضان النيل الذى يتسبب بدوره فى وقوع المجاعات بمصر، فسمع أن هناك شخصاً بالعراق يدعى «أبو على الحسن بن الهيثم» أبدى نبوغاً فى الهندسة.. وأنه قال: – لو كنت بمصر – أى ابن الهيثم – لعملت فى نيلها عملاً يحصل به النفع فى كل حالة من حالاته من زيادة ونقص … فأرسل الحاكم فى طلبه ولما وصل مصر استقبله بنفسه وبعثه مع مجموعة من الصناع جابوا الأراضى المصرية حتى وصلوا إلى زسوان … ولكن ابن الهيثم لم يستطع أن ينفذ مشروعاً لضبط النيل … ومع ذلك أبقاه الحاكم مكرماً فى مصر حتى وفاته.
وبعد «الحاكم» استمرت المجاعات تضرب مصر، حيث وقعت أعوام 1052 و1055 و1058 م، لكن المجاعة الأضخم وقعت فى عهد «المستنصر» الفاطمى فى الفترة من 1065 م إلى 1071 م، استمرت لمدة سبع سنوات وبشكل متصل مما دفع المؤرخين إلى تسميتها «الشدة المستنصرية» لوقوعها فى عهد المستنصر الفاطمى، خلال هذه الأعوام السبعة اضطر المصريون إلى أكل الميتة من الكلاب والقطط بل وصل الأمر إلى أكل الأطفال الصغار بعد ذبحهم وشيهم، قدر عدد من هلكوا فى هذه المجاعة – الشدة – بنحو ثلث سكان مصر حينها، واستمرت الشدة إلى أن جاء منسوب فيضان النيل مرتفعاً وحينها ذهبت الفتن وعادت الزراعة وأقبل الخير.
ولما كانت الشدة المستنصرية قد حدثت بسبب انخفاض فيضان النيل، فإن ما يمكن أن نسميها «النكبة الأيوبية» والتى وقعت فى عهد العادل الأيوبى الذى حكم مصر فيما بين 1199 م إلى 1218 م كانت أيضاً بسبب انخفاض منسوب فيضان النيل كما يروى أحداثها الرحالة «عبداللطيف البغدادى» فيقول «ودخلت سنة سبع مفترسة أسباب الحياة، وقد يئس الناس من زيادة النيل وارتفعت الأسعار وأقحطت البلاد وأشعر أهلها البلاء وهرجوا من خوف الجوع وانضوى أهل السواد والريف إلى أمهات البلاد وانجلى كثير منهم إلى الشام والمغرب والحجاز واليمن وتفرقوا فى البلاد ومزقوا كل ممزق».
ويكمل البغدادى شهادته على هذه الأحداث العصيبة التى ألمت بمصر سنة 595 هجرية بقوله «ودخل القاهرة ومصر منهم خلق عظيم واشتد بهم الجوع ووقع فيهم الموت عند نزول الشمس الحمل … وبىء الهواء ووقع المرض والموتان واشتد بالفقراء الجوع حتى أكلوا الميتات والجيف والكلاب والبعر والأرواث، ثم تعدوا ذلك إلى أن أكلوا صغار بنى آدم فكثيراً ما يعثر عليهم ومعهم صغار مشويون أو مطبوخون فيأمر صاحب الشرطة بإحراق الفاعل لذلك والآكل».
ويستفيض البغدادى فى روايته المفجعة ويقول «رأيت صغيراً مشوياً فى قفة، قد أحضر إلى دار الوالى ومعه رجل وامرأة يزعم الناس أنهما أبواه فأمر بإحراقهما».
ويستطرد البغدادى ليقول «ووجد فى رمضان وبمصر رجل وقد جردت عظامه عن اللحم، فأكل وبقى قفصاً كما يفعل الطباخون بالغنم».
ويكمل البغدادى بقوله «ومثل هذا أعوز جالينوس مشاهدته ولذلك تطلبه بكل حيلة وكذلك كل من آثر الاطلاع على علم التشريح … وحينما نشم الفقراء فى أكل بنى آدم كان الناس يتناقلون أخبارهم ويفيضون فى ذلك استفظاعاً لأمره وتعجباً من ندوره … ثم اشتد قربهم إليه واعتيادهم عليه بحيث اتخذوه معيشة ومطية ومدخراً وتفننوا فيه … وفشا عنهم ووجد بكل مكان من ديار مصر فسقط حينئذ التعجب والاستبشاع واستهجن الكلام فيه والسماع له».
ويسهب البغدادى فى روايته لتداعيات القحط الذى حل بمصر لانخفاض فيضان النيل بقوله «ولقد رأيت امرأة يسحبها الرعاع فى السوق وقد ظفر معها بصغير مشوى تأكل منه وأهل السوق ذاهلون عنها ومقبلون على شئونهم وليس فيهم من يعجب لذلك أو ينكره فعاد تعجبى منهم أشد وما ذلك إلا لكثرة تكراره على إحساسهم حتى صار فى حكم المألوف الذى لا يستحق أن يتعجب منه … ورأيت قبل ذلك بيومين صبياً نحو الرهاق مشوياً وقد أخذ به شابان أقرا بقتله وشيه وأكل بعضه».
ويكمل البغدادى بقوله «وفى بعض الليالى بعد صلاة المغرب كان مع جارية فطيم تلاعبه لبعض المياسير فبينما هو إلى جانبها، اهتبلت غفلتها عنه صعلوكة فبقرت بطنه وجعلت تأكل منه نياً … وحكى لى عدة نساء أنه يتوثب عليهن لاقتناص أولادهن ويحامين عنهم بجهدهن».
ويمضى البغدادى فى وصفه لـ«النكبة» التى ألمت بمصر ليقول «وظهر من هؤلاء الخبثاء من يصيد الناس بأصناف الحبائل ويجتلبونهم إلى مكانهم بأنواع المخاتل وقد جرى ذلك لثلاثة من الأطباء أما أحدهم فإن أباه خرج فلم يرجع، أما الآخر فإن امرأة أعطته درهمين على أن يصحبها إلى مريضها فلما توغلت به مضايق الطرق استراب وامتنع عنها وشنع عليها فتركت درهميها وأما الثالث فإن رجلاً استصحبه إلى مريضه فى الشارع بزعمه وجعل فى أثناء الطريق يصدف بالكسر ويقول اليوم يغتنم الثواب ويتضاعف الأجر ولمثل هذا فليعمل العاملون، ثم كثر حتى ارتاب منه الطبيب ومع ذلك فحسن الظن بقلبه وقوة الطمع تجذبه حتى أدخله داراً خربة فزاد استشعاره وتوقف فى الدرج وسبق الرجل فاستفتح، فخرج إليه رفيقه يقول له «هل مع إبطائك حصل صيد ينفع، فخرج الطبيب لما سمع ذلك وألقى نفسه إلى اسطبل من طاقة صادفها السعادة فقام إليه صاحب الإسطبل يسأله عن قضيته فأخفاها عنه خوفاً منه أيضاً … فقال له : قد علمت حالك فإن أهل هذا المنزل يذبحون الناس بالحيل».
ويكمل البغدادى روايته ليقول: «ومما شاع أيضاً نبش القبور وأكل الموتى وبيع لحمهم».
ويقول البغدادى كذلك: «وهذه البلية التى شرحناها وجدت فى جميع بلاد مصر ليس فيها بلد إلا وقد أكل فيه الناس أكلاً ذريعاً من أسوان وقوص والفيوم والمحلة والإسكندرية ودمياط وسائر النواحى».
ويكمل البغدادى المأساة ليقول: «وأما الضواحى والقرى فإنه هلك أهلها قاطبة إلا ما شاء الله، إن المسافر ليمر بالبلدة فلا يجد فيها نافخ ضرمة ويجد البيوت مفتحة وأهلها موتى متقابلين بعضهم قد رم وبعضهم طرى وربما وجد فى البيت أثاثه وليس له من يأخذه».
وكذلك شاع بيع الفتيات وعن ذلك يقول البغدادى: «سألتنى امرأة أن أشترى ابنتها وكانت جميلة دون البلوغ بخمسة دراهم فعرفتها أن ذلك حرام، فقالت خذها هدية، كثيراً ما يترامى النساء والولدان الذين فيهم صباحة على الناس بأن يشتروهم أو يبيعوهم، قد استحل ذلك خلق عظيم، وصل سبيهم إلى العراق وأعماق خراسان وغير ذلك».. وقدر عدد من لقوا حتفهم فى النكبة الإيوبية بنحو 220 ألف مصرى من مختلف مناطق مصر، ورغم كل الأزمات والنكبات بقيت مصر.. وستبقى مصر.. وسيذهب اعدائنا.