رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رحيم

بعض الانتصارات هزائم مُقنعة، وفى كل هزيمة انتصار خفى يحتاج لنفس مدربة على اكتشاف النواقص والاعتراف بها، ومن ثم تفاديها فى الجولة القادمة، ما الذى ينقصنى؟ قال رحيم لنفسه وقبل أن يغرق فى تأملاته هاتفه رشيد ودعاه لأمسية على نيل القاهرة، أبدى موافقته متحمسًا لملاقاة رفقة الدرب، فربما يجد ضالته بصحبتهم. 

كان بانتظاره أيضًا رجل الأعمال رءوف العسال والمحامية كوثر رفقى، بادره رءوف بسؤال عن سر اختفائه عن الساحة الفنية، بل الأدبية، أجابه رحيم: أنا بلا عمل، لم أترك بابًا إلا طرقته، قاطعه رءوف: لكنك تعرف كل أصحاب الأعمال تقريبًا، تكمن الإجابة فى السؤال، قالها رحيم دون أن يفكر كرد ظنه قاطعًا على سؤال رءوف: كيف تعرف كل هؤلاء وتظل سنوات بلا عمل؟ لأننى أعرف هؤلاء يا سيدى، لم يستسلم رءوف وأضاف: بعضهم تربى على حجرك يا أستاذ، والبعض اقتسم معك عذابات البدايات وأحلامها، لا تحرث فى البحر يارءوف.

كان رشيد يحتضن عوده يغنى ويردد خلفه رحيم «شمس الأصيل»، وهو ينظر لصفحة النيل الممددة كجلد خرتيت ميت، بينما بدت المراكب ثابتة بلا أدنى حركة، وبدا المشهد برمته كلوحة سريالية لم يمهل العمر صاحبها ليتممها، تمتم رحيم قبل أن ينصرف: ليلة تليق بمودع وأكمل «على سواقى بتنعى ع اللى حظه قليل». 

انصرف الجميع كل إلى طريقه حين تباطأت كوثر فى إدارة محرك سيارتها حتى مر بقربها رحيم دون أن يراها فاستوقفته: على فين؟ أخبرها بأنه بلا وجهة، ففتحت باب سيارتها له وانطلقا فى جولة بشوارع القاهرة، فى الصباح كان رحيم يأخذ مكانه فى طابور طويل أمام مكتب الجوازات ليحصل لأول مرة فى حياته على وثيقة سفر؛ حتى وإن كان لا يعرف إلى أين ستكون وجهته.

وقف ساهمًا يرى نفسه يجرى بين تماثيل العاصمة، يتوقف عند بعضها يحاكيها ويراقص بعضها الآخر، ويحلق فوقها ثم يجثو على ركبتيه، وقد شكلت التماثيل دائرة تطوف حوله وتغنى: لا تتركوه يموت حتى لا يعريكم صدره الذى يخلو من القلادات، وجدرانه التى لم تزينها الجوائز، وتحملوه بعض الوقت حين يمر مثل ضوء عابر يكسر عيونكم بسيرته ويمضى، وحياته الناصعة، وحزنه النادر مثل ضحكة من القلب، وأغانيه التى توزعت على نهود وسائدكم فى انتصاراتكم وخيباتكم، لا تتركوه يموت، فموته باهظ التكاليف مثل رب عائلة فقيرة، لكن غناءها ذهب سدى ولم ينتبه أحد، كما جرت العادة فى مثل هذه الأمور.