عن مفهوم التعصب!
يقولون إن الحرية الشخصية تنتهى عند تلامس حدودك مع حدود الآخرين، وعليك أن تؤمن أن كل فرد فى الحياة له قناعاته العقائدية والاجتماعية والسياسية والرياضية، ولك الحق أن تعرف الطريق الصحيح إلى الانتماء: الانتماء لوطن، أو لجماعة أو لفصيل، أو للون من ألوان الإبداع الأدبى، أو الشعرى، أو الموسيقى، أو حتى إلى فريق رياضى، ولكن ليس من حقك فرض قناعاتك وانتماءاتك على الغير بالقوة، وهذا الاتجاه هو ما يسمى بـ«التعصب الأعمى»، فالتعصب هو شعور داخلى يجعل الإنسان يرى نفسه دائمًا على حق والآخرين على باطل...
... مما قد يعطيه الإحساس الوهمى بالغرور فتنتفخ فى داخله بالونات الـ «أنا» حتى تنفجر فى وجهه ووجه المجتمع، ويظهر هذا الشعور فى صورة ممارسات ومواقف ينطوى عليها ـ ربما ـ احتقار الآخر وعدم الاعتراف بحقوقه وإنسانيته، وهذا التعصب ممجوج ومستهجن بطبيعة الحال، وهو ما تصفه معاجم اللغة بالتعصُّبْ الأعمى الذى تفسره بالمَيل والهوى أو السلوك أو التصرفالمبالغ فيه بغير اقتناع، فهو يؤدى إلى التسلط والجمود فى التفكير، أو اللجوء ـ فى حالات كثيرة ـ إلى العنف لتحقيق الغاية التى آمنت بها قناعاتك الشخصية بادعاء أنك تملك ناصية الحق المطلق، ولا تدرك أن الحق له أوجه وزوايا متعددة، ويمكن أن ترى فئة جزءًا من هذا الحق، برغم أن فئة أخرى ترى زاوية أخرى منه، وعليك أن تدرك أن الحق واحد ولكن طرق الصواب فى الوصول إليه متشعبة وكثيرة، وذهب بك جمودك الفكرى بعيدًا فلم تر سوى صورة قناعاتك الشخصية فى مرآة ذاتك التى تحاول أن تفرضها على الآخرين، وهذا خطأ لأن لكل فرد مراياه الخاصة التى يرى فيها انعكاسات رؤى روحه على وجهها.
ولاشك أن التعصب الدينى أو العقائدى على سبيل المثال ـ هو أخطرها فقد استشرى ونما كحشائش الشيطان وبذور شجرة الحنظل فى تربة أرضنا العربية والمصرية ، خاصة فى الفترة الأخيرة، وتعود بدايات التعصب المذهبى فى التاريخ الإسلامى إلى الخلافات السياسية والفكرية –الأصولية والفقهية – التى حدثت بين المسلمين خلال القرون الثلاثة الهجرية الأولى، وكانت إرهاصاتها مع «واقعة التحكيم» أو ما اتفق المؤرخون على تسميته بـ «الفتنة الكبرى» التى وصلت بنا إلى ما نحن فيه اليوم، الأمر الذى أدى إلى ظهور فرق وطوائف وجماعات تمذهبت بأفكار وأصول كانت تحملها، ثم تعصّبت لها وسعت جاهدة إلى نشرها والانتصار لها على أرض الواقع، فدخلت فى نزاعات مذهبية شديدة فيما بينها. وجدير بالذكر أن مشكلة التعصب الدينى ليست مقصورة على المسلمين فحسب، بل واجهتها أوروبا فى مطلع العصر الحديث مع ظهور البروتستانتية، وقد شهد القرن السادس عشر تعصبًا كاثوليكيًا ضد البروتستانت، وقد ظل هذا التعصب الدموى بين الديانتين طوال القرن السادس عشر، ويمثل هذا التعصب بداية التعصب الدينى فى العالم بما فيه العالم الإسلامى لاحقاً. ولنترك التاريخ وأحداثه الجسام بحلوها ومرِّها ـ فما حدث فى الزمان الغابر قد حدث ـ ولننظر نظرة فاحصة متأنية إلى حاضرنا الذى ترعرعت فيه أشكال جديدة من التعصب ما أنزل الله بها من سلطان، ويجب علينا تدارك ما وقعنا فيه من أخطاء وصلت بنا إلى هذه المتاهات والسراديب المعتمة، لنحاول أن نفتح طاقة نور فى نهاية النفق المظلم، ولنراجع ما نحن فيه الآن من أشكال التعصب الرياضى بين أنصار الفرق المختلفة فى الساحة الرياضية المصرية، فسنجد العجب العُجاب من أنصار هذا وذاك، وكل جانب فى اعتقاده أنه الأجدر بالفوز والصدارة، ويحشد مؤيديه فى جماعات متحفزة للقتال الذى يندلع عند أول بادرة لهزيمة مستحقة أو غير مستحقة، وقد رأينا بأم أعيننا أنهار الدماء التى ملآت ساحات الملاعب والمدرجات، ودفعنا الثمن غاليًا من الأرواح التى انساقت لإشعال وتأجيج نيران التعصب والتحدى بين الفرقاء أبناء الوطن الواحد، وللأسف ينفخ فى «كيرها» أصحاب المصلحة فى استمرارها من بعض العاملين فى بعض القنوات التليفزيونية المتخصصة، التى لا يهمها سوى زيادة ساعات المشاهدة لاقتناص الأرباح على حساب الأرواح، بل على حساب كل القيم والمبادىء والأعراف، وكأننا فى حلبة قتال شبيهة بحلقات القتال الرومانية القديمة فى عهد الأباطرة حيث شاركت فئات الشعب الرومانى بأكمله فى تلك الأحداث، ومات وقتذاك العشرات من المصارعين والثيران الذين ضحوا بحياتهم جراء التعصب الأعمى، والجميع ينتظر بتلذذ من الذى سيسقط صريعًا داخل الحلبة: الثور أم الماتادور!
أما آن الأوان لكى نمارس الاعتدال فى كل شئون حياتنا، بعيدًا عن العصبيات التى تؤدى بنا إلى مفترق الطرق التى لا عودة منها إلا بالخسارة للنفس والجهد وبنى جلدتنا، فنشد على يد المنتصر بحق، ونواسى من لحقته كبوة مؤقتة ليعود بعدها أشد قوة وبراعة ليسعد الملايين بالفن والمهارات والإبداع الراقى، ولنقدم الدليل العملى على أننا بالفعل أصحاب حضارة علمت الإنسانية ـ وهى مازالت فى مهدها ـ كل قيم الحق والخير والجمال.